رغم ما حققته الدولة خلال السنوات الأخيرة من تقدم ملموس فى ملف التحول الرقمى والشمول المالي، لايزال الاقتصاد غير الرسمى أحد أكبر التحديات التى تواجه مسار الإصلاح الاقتصادي. فمشهد رفض بعض التجار التعامل ببطاقات الدفع الإلكتروني، أو تحميل المواطن رسومًا إضافية مقابل استخدام «الفيزا»، يعكس فجوة قائمة بين السياسات المعلنة والواقع اليومى للأسواق، ويكشف أن المعركة الحقيقية لم تُحسم بعد على أرض التطبيق.
الاقتصاد غير الرسمى لا يمثل فقط تهربًا ضريبيًا أو خروجًا عن المنظومة القانونية، بل هو اقتصاد موازٍ يحرم العاملين فيه من مظلة الحماية الاجتماعية، ويغلق الباب أمام فرص التعليم والتدريب والتأمين الصحي، ويضعف قدرة الدولة على التخطيط السليم. فى المقابل، فإن دمج هذه الأنشطة داخل الاقتصاد الرسمى يخلق قيمة مضافة حقيقية، ويعزز الاستقرار، ويحوّل المجتمع تدريجيًا إلى اقتصاد معرفة قائم على البيانات والتكنولوجيا.
وقد قطعت الدولة شوطًا مهمًا فى هذا المسار عبر مبادرات متعددة، من بينها التوسع فى ميكنة المدفوعات الحكومية، ومنظومة الفاتورة الإلكترونية، والدفع الإلكترونى للمرتبات والمعاشات، فضلًا عن مبادرات الشمول المالى التى يقودها البنك المركزي، ومشروعات «حياة كريمة» التى ربطت التنمية بالخدمات الرقمية فى القرى والمناطق الأكثر احتياجًا. هذه الجهود أسست بنية تحتية قوية، لكنها ما زالت تحتاج إلى استكمال الحلقة الأهم: تغيير نمط التعامل النقدى فى السوق.
أولى خطوات الدمج الحقيقى تبدأ بتجفيف الاعتماد على العملة الورقية بشكل مرحلي، من خلال تحديد سقوف قصوى للتعامل النقدي، وتوسيع نطاق المدفوعات غير النقدية فى البيع والشراء، وليس فقط فى التعاملات الحكومية. فحين يصبح الدفع الإلكترونى هو القاعدة لا الاستثناء، تتراجع تلقائيًا مساحات الاقتصاد الخفي، وتتحول الأنشطة الصغيرة إلى كيانات قابلة للرصد والنمو.
وفى هذا السياق، تبرز أهمية التوصيات العملية على ثلاثة مسارات متوازية. تشريعيًا، تحتاج المنظومة إلى قوانين واضحة تُجرّم فرض رسوم إضافية على الدفع الإلكتروني، وتُلزم بقبول وسائل الدفع غير النقدى فى الأنشطة التجارية والخدمية.
ضريبيًا، قطعت الدولة خطوة مهمة بالفعل بإطلاق وتطبيق منظومة الفاتورة الإلكترونية، وتقديم عدد من التسهيلات للممولين، خاصة فى مراحل الانضمام الأولي، بما يعكس إدراكًا رسميًا لأهمية الانتقال المنظم نحو الشفافية الضريبية. غير أن التحدى الحقيقى لم يعد فى الإطلاق، بل فى تعميم المنظومة على جميع الأنشطة الاقتصادية خلال إطار زمنى محدد وواضح.
أما مصرفيًا، فيقع على عاتق القطاع البنكى دور محورى فى التوسع بخدمات منخفضة التكلفة، وتوفير حلول دفع رقمية تناسب صغار التجار.









