لا تصل الدول إلى أطرافها البعيدة إلا بأذرع طويلة وقوية، لكن القوة وحدها لا تكفي. ما يمنح هذه الأذرع فعاليتها الحقيقية هو الرؤية الإستراتيجية الواضحة، القائمة على فهم عميق لمفهوم الأمن القومى باعتباره منظومة ديناميكية، لا مجرد رد فعل على تهديد طارئ. هذه المنظومة تقوم على حزمة من الثوابت المرتبطة بالجغرافيا، والموارد، والممرات الحيوية، وتتحرك صعودًا وهبوطًا مع حزمة من المتغيرات التى يفرضها الواقع المحلى والإقليمى والدولي.
***
التجارب الدولية تؤكد أن الدول التى نجحت فى حماية مصالحها وتوسيع نفوذها هى تلك التى أحسنت قراءة خريطتها الإستراتيجية، وحددت بدقة «الأطراف القريبة» التى تشكّل خط الدفاع الأول، و»الأطراف البعيدة» التى تُدار عبرها موازين الردع والتأثير. فى المقابل، لا تزال معظم الدول العربية تتعامل مع الأمن القومى بمنظور ضيق، موسمي، يفتقر إلى التخطيط بعيد المدي، ويغلب عليه الطابع التفاعلى لا الاستباقي.
***
إسرائيل تمثل نموذجًا كلاسيكيًا لدولة أدارت أمنها القومى بعقلية المشروع المستمر. منذ تأسيسها، لم تحصر صراعها فى الدائرة العربية المباشرة، بل عملت على تطويق هذا المحيط عبر تحالفات مع أطراف غير عربية تمتلك أوراق ضغط حيوية. فى مرحلتها الأولي، شكّلت تركيا وإيران الشاه وإثيوبيا «الأطراف القريبة» لإسرائيل، كلٌ وفق موقعه الجغرافى ووظيفته الإستراتيجية.
***
تركيا، بحكم سيطرتها على منابع دجلة والفرات، مثّلت أداة ضغط غير مباشرة على سوريا والعراق. إثيوبيا كانت بوابة الضغط على مصر عبر مياه النيل. أما إيران الشاه، فقد قدّمت نفسها كوكيل إقليمى للغرب، وكان تحالفها مع إسرائيل جزءًا من هذا الدور. بهذه الثلاثية، فرضت إسرائيل طوقًا إستراتيجيًا خانقًا حول العالم العربي، مستندة إلى الجغرافيا أكثر من السلاح.
***
لكن المتغيرات الكبرى أعادت تشكيل الخريطة. الثورة الإسلامية فى إيران، ثم اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية، نقلت إسرائيل من مرحلة الصراع الوجودى إلى مرحلة إدارة التفوق. خروج مصر من معادلة المواجهة المباشرة منح تل أبيب هامشًا واسعًا للحركة، فى حين تحوّلت إيران من حليف إلى خصم إستراتيجي.
***
هنا انتقلت إسرائيل إلى مرحلة «الأطراف البعيدة»، فوسّعت علاقاتها مع اليونان وأذربيجان والهند. اليونان أصبحت ورقة موازنة فى شرق المتوسط فى مواجهة تركيا. أذربيجان شكّلت حاجزًا جيوسياسيًا أمام التمدد الإيراني. أما الهند، فمثّلت شريكًا إستراتيجيًا فى معادلة آسيوية أوسع، لها امتدادات تتعلق بباكستان والتوازنات النووية.
***
فى المقابل، طوّرت إيران نموذجًا مختلفًا للأطراف القريبة، قائمًا على الأذرع غير الدولتية. عبر سوريا، وحزب الله، وفصائل فى العراق واليمن، بنت طهران شبكة نفوذ مرنة، منخفضة الكلفة، عالية التأثير. هذا النموذج سمح لها باختراق العمق العربى دون مواجهة مباشرة، وفرض نفسها لاعبًا لا يمكن تجاوزه.
***
اليوم، ومع موجة المتغيرات الجديدة – من اتفاقات التطبيع، إلى حرب غزة، إلى الحرب الروسية – الأوكرانية، وتراجع الانخراط الأمريكى المباشر – لم تعد خريطة الأطراف ثابتة. تركيا تعيد تموضعها بين الشرق والغرب، إيران تفاوض وتتصادم فى آن واحد، وإسرائيل تنتقل من سياسة الظل إلى المكاشفة العسكرية.
***
فى هذا المشهد المتحرك، يبرز السؤال الجوهري: أين تقف الدول العربية؟ حتى الآن، لا مشروع عربى متكامل لإعادة تعريف الأطراف القريبة والبعيدة، ولا رؤية موحدة لتحويل الجغرافيا من عبء إلى ورقة قوة. من لا يمتلك أذرعًا طويلة برؤية واضحة، سيظل هدفًا لأذرع الآخرين، مهما امتلك من شعارات ونوايا.









