قبل أيام نشرت صحيفة ذا نيويورك تايمز الأمريكية تقريرا فى غاية الخطورة حذر فيه مجلس تحرير الصحيفة من أن العالم مقبل على مرحلة جديدة تتقاطع فيها تقنيات الذكاء الاصطناعى والهندسة البيولوجية والروبوتات المتقدمة وأنظمة الأسلحة ذاتية التشغيل لتعيد رسم حدود الأمن القومى عالميا، بعدما تحولت الحرب إلى لعبة يديرها الذكاء الاصطناعى، وأن الأمم ستشهد ما قد يكون أسرع تقدم فى التسلح على الإطلاق.
التسارع التكنولوجى الذى يجتاح العالم الآن بقدر ما أفاد البشرية، أصبح شيئا مخيفا، كل تقدم نشهده مرتبط الآن بالاكتشاف العلمى، وهناك قصة روتها «ذا نيويورك تايمز» عن اجتماع عُقد فى 15 نوفمبر 2023 بين الرئيس الأمريكى السابق جو بايدن ونظيره الصينى شى جين بينج، فيها عبرة، فبعد انتهاء الغداء، شوهد أحد مرافقى الرئيس الصينى وهو يرش جميع الأسطح التى لمسها شى جين بينج، حتى بقايا الحلوي, واستنتج المسئولون الأمريكيون الذين شاهدوا ما حدث أن الغرض من ذلك كان إزالة أى أثر للحمض النووى للرئيس الصينى، فى خطوة تعكس قناعة بكين بأن خصومها قد يحاولون جمع مادته الجينية وتطوير مرض يستهدفه شخصيا, هذه القصة فى رأيى تبين الطريقة التى يفكر بها الآن من يملكون «الزر الأحمر» الذى بضغطة منه يتحول الواقع إلى رماد، وهى أنه يمكن تصنيع مرض لا يصيب إلا شخص واحد».
صحيح أن العلاقات الدولية قائمة والدبلوماسية العالمية لم تخرج من الخدمة، لكن فى خط مواز، تعمق وتيرة التغيير التكنولوجى الشك والخوف بين القوى الكبرى، وتعيد تشكيل الجغرافيا السياسية.
الشاهد أننا دخلنا بالفعل أسرع تقدم فى التسلح على الإطلاق, فالحرب الحديثة تتطور بسرعة تتجاوز المعدلات التقليدية, ويشير الخبراء إلى العديد من التقنيات الناشئة المرعبة، فهناك الآن أسراب من الطائرات المسيّرة القادرة على العمل فى تناغم لرصد الأهداف والقضاء عليها دون تدخل بشرى، وأسلحة سيبرانية متقدمة تشلّ حركة القوات المسلحة وتُغلق شبكات الكهرباء وتدمر البُنى الحيوية لدولٍ بأكملها، وأسلحة بيولوجية يصممها الذكاء الاصطناعى لاستهداف أشخاص ذوى بصمة جينية محددة, بعض هذه التقنيات لا يزال فى طور النظرية، لكنّ كثيرا منها يقترب سريعا من الاستخدام العملي, فالذكاء الاصطناعى والحوسبة الكمية وعلم الأحياء التركيبى بدأت تعيد تعريف آليات الحرب نفسها.
بينما تتفوق الولايات المتحدة فى بعض المجالات، لاسيما الذكاء الاصطناعى بفضل ريادة قطاعها الخاص، فإن الصين وروسيا تستثمران بكثافة فى الجامعات والمختبرات والمنشآت العسكرية لدمج الاكتشافات الجديدة مباشرة فى جيوشهما.
فى تصورى أن نقطة الذروة ستكون عندما تتجاوز السرعة التى تتطور بها الحروب قدرة البشر على السيطرة عليها، والسؤال الذى يطرح نفسه ماذا تفعل الدول لمواكبة سباق التسلح بينها فى القرن الحالى، الإجابة فى رأيى صعبة أوالوصول إليها ليس سهلا، فهناك جهد كبير مطلوب من كل دولة لتكون آمنة، يبدأ هذا الجهد من توفر إرادة سياسية وتنسيق وطنى بين القطاعين العام والخاص والمؤسسات البحثية وتوسيع مبادرات تمويل البحث العلمى، وإشراك القطاع الصناعى الخاص فى المهمة.
دروس التاريخ كثيرة فى هذا السياق فمثلا فى الحرب العالمية الثانية، حدث أن سبقت العلوم الأمريكية نظيرتها الألمانية فى تطوير السلاح الذرى، وفازت بالحرب بفضل التعاون بين المسئولين الحكوميين الأمريكيين والباحثين الأكاديميين والشركات الخاصة، وتعتبر الحاجة إلى هذا التعاون ماسّة الآن لجميع الدول، خاصة فى الذكاء الاصطناعى، نظرا لأن هذه التكنولوجيا ذات الآثار العميقة على الأمن القومى قد طوّرها القطاع الخاص فى المقام الأول.
الآن هناك أمثلة كثيرة على التحول الجارى داخل الجيوش الكبرى فى العالم لمواكبة الاجتياح التقنى وفى الرأس منه الذكاء الاصطناعى، والتهديد الأخطر الذى سيواجه العالم فى الأيام القادمة هو تلاقى الذكاء الاصطناعى مع البيولوجيا فالذكاء الاصطناعى الآن قد يُمكّن أفرادا عاديين من تصميم مسببات أمراض فتاكة، وأظهر طلاب من معهد «ماساتشوستس» للتكنولوجيا بمدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس فى الولايات المتحدة مدى سهولة ذلك عندما استخدموا «روبوتات» محادثة لإعداد وصفات لأربعة فيروسات وبائية خلال ساعة واحدة فقط.
الحل فى رأيى أن تهتم الدول بالبحث العلمى وقيادة الابتكار وتعيد الاستثمار طويل الأمد فى الجامعات، وتصيغ معاهدات للحد من انتشار الأسلحة الذاتية التشغيل، وتشدد الرقابة على المواد البيولوجية، وتصدير الشرائح المتقدمة للذكاء الاصطناعى، ذلك لمن أراد البقاء والمواكبة.









