«هل أدرك حقًا أن ما أراه ليس طبيعيًا، أم أننى فقط اعتدت عليه؟»
بهذا السؤال الصادم اختتم الدكتور حسام بدراوى مقاله المعنون بـ «صناعة الاعتياد»، وهو سؤال لا يطلب إجابة بقدر ما يفضح واقعًا مخيفًا: أننا لم نعد نميّز بين الطبيعى والمشوّه، بين الخطأ والاستثناء، لأننا ببساطة اعتدنا القبح حتى صار جزءًا من المشهد اليومي.
مقال بدراوى لم يكن تنظيرًا نخبويًا ولا ترفًا فكريًا، بل كان صرخة تحذير هادئة فى ظاهرها، عميقة الخطر فى مضمونها. الخطر الحقيقى لا يكمن فى وقوع الخطأ، بل فى التعايش معه، والتطبيع معه، والدفاع عنه أحيانًا بحجج واهية من نوع «الظروف صعبة» و»البلد بتمر بأزمة» و»مش وقته».
صناعة الاعتياد هى أخطر ما يصيب المجتمعات. أن تألف النفس المعصية، فتتحول الكبائر إلى تفاصيل عابرة. أن يألف المواطن الإهمال الحكومى والفساد المؤسسي، فيتعامل معهما كجزء من الطبيعة لا كجريمة. أن يرى المجتمع الجرائم تُرتكب فى وضح النهار، داخل الشارع وداخل الأسرة، دون أن تهتز له مشاعر أو تتحرك ضمائره. كل ذلك لم يحدث فجأة، بل عبر عملية بطيئة ومدروسة من الترويض النفسي.
الأخطر من كل ما سبق هو حين تفقد النخبة قدرتها على الاندهاش. حين يصبح المثقف باردًا، والإعلامى مبررًا، ورجل الدين صامتًا، والأكاديمى محايدًا فى مواجهة الانحراف. هنا نكون قد دخلنا المنطقة الرمادية التى لا يُستنكر فيها شيء، ولا يُدان فيها شيء، ولا يُحاسب فيها أحد.
نقرأ أخبارًا اليوم ونشاهد وقائع لو حدثت فى زمن آبائنا أو أجدادنا لقامت الدنيا ولم تقعد. وقائع تهز القيم، وتكسر القواعد، وتنسف ما تبقى من معايير. ومع ذلك تمر مرور الكرام. نغضب لدقائق على مواقع التواصل، ثم نعود إلى حياتنا كأن شيئًا لم يكن. كأن جسد المجتمع فقد الإحساس بوخز الضمير الجمعي.
وهنا تكمن الكارثة الحقيقية: أن يصبح المجتمع مخدّرًا لا يشعر بالألم. صناعة الاعتياد أخطر من صناعة المخدرات والمغيّبات، لأن الأولى تقتل الإحساس، بينما الثانية تقتل الجسد. مجتمع بلا دهشة هو مجتمع بلا مناعة، بلا رد فعل، بلا قدرة على الدفاع عن نفسه.
الدهشة ليست سذاجة، وليست انفعالًا طفوليًا، بل هى أولى درجات الوعي. أن تندهش يعنى أنك ما زلت حيًا، ما زلت تملك معيارًا، ما زلت تفرّق بين ما يجب أن يكون وما لا يجب أن يكون. حين نتوقف عن الدهشة، نكون قد قبلنا ضمنيًا بكل شيء، حتى بما يدمّرنا.
من هنا، لا بد من مواجهة الاعتيادية القاتلة بإحياء الدهشة. دهشة ترفض القبح، وتفضح الخطأ، وتعيد تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية. دهشة تحيى المجتمع وتوقظ الضمائر، قبل أن نصحو يومًا فنكتشف أننا اعتدنا كل شيء.. حتى السقوط.









