شهدت الندوة العلمية التي حاضر فيها الدكتور محمد عثمان الخشت، عضو المجلس العلمي الأعلى لجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية ورئيس جامعة القاهرة السابق، طرحًا فكريًا معمقًا حول ضرورة تجديد الخطاب الديني في قضايا المواطنة والنظم السياسية.
ركز الطرح على إعادة بناء العلاقة بين المقدس والبشري، وتفكيك المفاهيم التراثية التي صيغت في عصر الإمبراطوريات.
جاءت الندوة في إطار الملتقى الفلسفي المشترك بعنوان «المواطنة والآخر وفلسفة الوجود الإنساني»، والذي نظمته جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية بالتعاون مع بيت الفلسفة بالفجيرة.
كانت الندوة بمثابة مواجهة فكرية هادئة وحاسمة لخطاب الإسلاموية السياسية الذي يوظف الدين لاختطاف السلطة ويخلط بين الوحي الإلهي والمشروعات الأيديولوجية للجماعات الدينية.
نهاية عصر الرعية: الخلط بين المقدس والبشري
أكد الدكتور الخشت أن أحد أكبر معوقات التطور السياسي يتمثل في الخلط بين الدين – بوصفه وحيًا مقدسًا ثابتًا – وبين النظم السياسية التي هي اجتهادات بشرية متغيرة. وشدد على أن هذا الخلط سمح بظهور نماذج ثيوقراطية ادعت قداسة سياسية لا أصل لها في الدين.
أبرز نقاط الدكتور الخشت في تفكيك الخطاب المتطرف:
- رفض النموذج السلطاني الجامد: أكد الخشت أن محاولات الإسلاموية السياسية تحويل التجربة النبوية إلى نموذج سلطاني جامد يخدم أيديولوجياتها تُضرب في الصميم عبر التمييز الفقهي بين تصرفات النبي (مبلِّغًا، وإمامًا سياسيًا، وقاضيًا).
- النظم السياسية اجتهاد بشري: شدد على أن شكل نظام الحكم وطبيعة المؤسسات السياسية يدخلان في نطاق الاجتهاد البشري المتغير الذي لم يلزمه الدين بنموذج محدد.
- إسقاط احتكار الدين: أعلن الخشت نهاية احتكار “الجماعات الدينية” للحديث باسم الله في السياسة، مؤكدًا أن فصل المقدس عن البشري يُسقط ادعاءات الجماعات التي ترفع شعارات دينية لتبرير حكمها واستبدادها.
- سقوط خطاب “الرعية”: أكد أن عصر “الرعية” انتهى، وأن المواطنة المتساوية تُسقط خطاب الجماعات التي تتشبث بمفاهيم مثل “الرعية” و”أهل الذمة” التي صيغت في سياقات تاريخية مغايرة.
ثلاثة مسارات لتجديد الخطاب في قضايا المواطنة
شدد الدكتور الخشت على أن تجديد الخطاب الديني في ملف المواطنة يمر عبر ثلاثة مسارات رئيسية:
- المسار المنهجي: لإعادة ضبط أدوات فهم النص والتراث (لا قداسة لفتاوى التراث السياسية).
- المسار المفاهيمي: لإعادة تعريف مصطلحات مثل “الرعية” و”الحاكمية” و”أهل الذمة”.
- المسار العملي: لإنتاج خطاب ديني معاصر يعترف بالمواطنة الكاملة لجميع أبناء الوطن على أساس المساواة والكرامة الإنسانية.
صحيفة المدينة كـ”عقد اجتماعي” حديث
أبرز الدكتور الخشت الدور التأسيسي لـ “صحيفة المدينة” بوصفها أقدم نموذج لعقد اجتماعي يساوي بين مكونات المجتمع بغض النظر عن الدين، ويقر مبدأ التعددية وحرية المعتقد. مؤكدًا أن استلهام هذه الوثيقة يساعد في تجاوز المفاهيم التقليدية لصالح نموذج المواطنة الحديثة القائم على المساواة أمام القانون.
واختتم الدكتور محمد الخشت رؤيته بالتأكيد على الحاجة إلى خطاب ديني جديد يخاطب الإنسان باعتباره شريكًا في الوطن لا مجرد رعية، ويرسخ قيم العدل والمساواة، ويعترف بالدولة الوطنية الدستورية إطارًا مشروعًا لتحقيق مقاصد الشريعة.
إضاءة على المشروع الفكري للدكتور الخشت
جدير بالذكر أن مشروع الدكتور محمد عثمان الخشت يكتسب أهمية متزايدة في العالم العربي، حيث يعمل على مشروع فكري متكامل منذ أربعين عامًا يهدف إلى تأسيس خطاب ديني جديد ورؤية عقلانية مستنيرة للدين، بعيدًا عن الجمود والتقليد الأعمى، مع دعوة مستمرة إلى الدولة الوطنية، والتفكير النقدي، والتدبر في النصوص الدينية.











