فى مجتمعاتنا كثيرًا ما يخدعنا البريق. ننظر إلى الواجهة فننبهر، ثم إذا اقتربنا من الجوهر صُدمنا بالفراغ. الشكل متقن، الصورة لامعة، الكلمات منمّقة، لكن المضمون هشّ، وربما قبيح، لم تعد المشكلة فى الخطأ نفسه، بل فى الإصرار على إخفائه، وتبريره، والدفاع عنه كأنه سلوك طبيعى لا يستحق الوقوف عنده. هذه المفارقة لم تعد استثناءً، بل أصبحت سمة متكررة فى مؤسساتنا وأفرادنا وسلوكنا العام، حتى كأننا نتقن فن إخفاء العيوب أكثر مما نتقن إصلاحها.
> > >
فى كل مجال تقريبًا نجد حقائب منتفخة، ومشاريع ضخمة، وشعارات رنّانة، لكنها فى الداخل محشوة بأوراق بلا قيمة. مؤسسات تبهر من الخارج، فإذا ما دخلت إلى عمقها وجدت فراغًا إداريًا، وغياب رؤية، وادّعاء إنجاز لا وجود له. والأمر ذاته ينسحب على أشخاص كُثر: حضور لافت، لسان طليق، ثقة مفرطة، لكن بلا مضمون حقيقى أو أثر ملموس.
> > >
كثيرًا ما نقع ضحايا لهذه الصور المنمّقة. نُفتن بالبدايات، ثم ندفع ثمن النهايات. نقيس الناس والمشاريع بما يظهر منها، لا بما تخفيه، ونُفاجأ لاحقًا بأن الفجوة بين الشكل والمضمون أعمق مما كنا نتصوّر. وحتى المثل الشائع «الجواب يبان من عنوانه»، على وجاهته، لم يعد صالحًا دائمًا؛ فالعناوين اليوم تُصاغ بعناية لإخفاء الحقيقة لا لكشفها.
> > >
نعيش، للأسف، داخل دائرة واسعة من الوهم. نتخيّل أننا نعمل ونجتهد ونبحث وننجز، وأننا نحب الوطن ونخاف عليه ونسعى لتقدّمه. نتخيّل أننا مؤمنون مثاليون، أنقياء وأتقياء، نرفع الشعارات الدينية والأخلاقية بثقة، بينما سلوكنا اليومى يناقضها فى أبسط التفاصيل. نعيش وهم المثالية، ونقنع أنفسنا أننا صادقون، بينما الحقيقة غالبًا مدفونة تحت السجادة.
> > >
هذه الصورة المجرّدة تجسّدت أمامى يومًا فى موقف بسيط لكنه بالغ الدلالة. دخلت أحد المساجد التى يشرف عليها أناس يصفون أنفسهم بأنهم من أهل السنة والجماعة. كان المكان شديد الجمال: زخارف متقنة، آيات قرآنية تزيّن الجدران، سجاد فاخر، وروائح المسك والعنبر والبخور تملأ الأرجاء. كل شيء يوحى بالطهارة والسكينة.
> > >
بعد انتهاء الصلاة لاحظت طرف السجادة غير منتظم، فحاولت تعديله. رفعت طرفها قليلًا، فكانت الصدمة: قمامة، وقشر لب، وبقايا أطعمة مخبّأة تحت السجاد الفاخر. اتضح أن بعض القائمين على خدمة المسجد ونظافته يلقون مخلفاتهم تحت السجادة بدل وضعها فى الأماكن المخصصة، ثم يعودون للجلوس والحديث أو القراءة وكأن شيئًا لم يكن.
> > >
لم أستطع الصمت. سألت بحدّة: أهذه أخلاق وسلوكيات مقبولة فى بيت من بيوت الله؟ فجاء الرد مستخفًّا: «معلش، متكبرش الموضوع، عادي، هناخد بالنا».
> > >
المشكلة لم تكن فى القمامة وحدها، بل فى العقلية التى ترى الخطأ صغيرًا طالما أنه مخفي، وتعتبر التجميل أهم من الإصلاح. تلك العقلية هى نفسها التى تدير مؤسساتنا، وتشكّل خطابنا، وتبرر تناقضاتنا اليومية. ما دمنا نجيد إخفاء العيوب تحت السجادة، فلن نتقدّم خطوة واحدة. فالنظافة الحقيقية، مثل الصدق، تبدأ من الداخل لا من المظهر
> > >
هنا تكمن الكارثة. نحن لا نخاف من الخطأ، بل نخاف من كشفه. لا نبحث عن الحقيقة، بل عن وسيلة لإخفائها. وطالما استمررنا فى كنس القبح تحت السجادة، سنظل نعيش فى نفس الدائرة الخبيثة ، مهما كان السجاد فخمًا، ومهما تعطّر المكان بالبخور.









