فى عالم القنافد، لا يحدث العناق من فراغ، فالقنفد لا يقترب من رفيقه إلا عندما يشتد البرد وتتوثق الحاجة، ومع ذلك يظل الوخز حاضرًا والألم جزءًا من المعادلة، قد يبدو الاقتراب ضرورة، لكنه يظل اقترابًا حذرًا، مشوبًا بالخوف، ومثقلاً بثمنٍ لا بد من دفعه.
هذا التشبيه البسيط، الذى يبدو للوهلة الأولى أقرب إلى حكايات الطبيعة منه إلى السياسة، يختزل فى عمقه ما بات يحكم العلاقات الدولية اليوم: قرب اضطراري، وعناق مؤلم، وضرورات لا تترك للأطراف رفاهية الاختيار.
>> لطالما كانت كتب العلاقات الدولية تتحدث عن تحالفات صلبة، ومحاور ثابتة، واصطفافات لا تهتز بسهولة، إلا أن ما نشهده الآن، وخصوصًا فى العلاقات بين الولايات المتحدة وكلٍّ من أوروبا وروسيا والصين، على سبيل المثال، يكشف عن واقع مختلف، فالتقارب والتباعد بين هذه القوى الكبرى بات يشبه رقصة معقدة من الاقتراب الذى يفرضه الخطر، والابتعاد الذى تمليه المصالح، وهى رقصة قنافد لا طيور مغرّدة.
>> فالولايات المتحدة، رغم صراعها العلنى مع روسيا فى ملفات عديدة، تدرك أن موسكو تمثل مفتاحًا مهمًا لفكّ التحالف الروسى الصينى الذى يزعج واشنطن ويحدّ من قدرتها على إعادة صياغة النظام الدولي، وفى المقابل، تدرك روسيا أنها ــ رغم عدائها للغرب ــ تحتاج هوامش تفاهم مع أمريكا، حتى تستمر فى إدارة تحركاتها الجيوسياسية ضد أوروبا وضد تمدد الناتو.
هنا لا يمكن الحديث عن مودة، ولا حتى عن تقارب مبنى على الثقة، بل هو عناق اضطرارى يحقق فيه كل طرف جزءًا من مصالحه، ويتحمّل فى المقابل بعضًا من وخز الآخر.
>> الأمر ذاته يمكن ملاحظته فى علاقة أوروبا بروسيا والصين. فأوروبا التى تخشى النفوذ الروسى وتستنفر للدفاع عن أمنها شرقًا، لا تستطيع تجاهل حاجتها للطاقة الروسية، ولا قدرتها على إدارة علاقات اقتصادية مع الصين التى باتت تسيطر على مفاصل التجارة العالمية.. هى إذن شبكة من العلاقات التى تجمع بين الخوف والمصلحة، وبين الاضطرار والرغبة فى تجنب الأسوأ.
وهذه هى بالضبط فلسفة عناق القنافد: أن تقترب لأن البقاء يتطلب ذلك، وأن تتحمل الألم لأن البديل أكثر تكلفة.
>> وإذا انتقلنا من المشهد الدولى إلى الإقليمي، سنجد الصورة أكثر تعقيدًا، فالعالم العربى يعيش منذ سنوات فى قلب تقاطعات كبري: صراعات مع إيران، تنافس مع تركيا، علاقات أمنية وسياسية مع إسرائيل، وأدوار متشابكة تتداخل فيها الأيديولوجيا مع المصالح الاقتصادية ومع ضرورات الأمن القومي. فى هذا السياق، تبرز العلاقات المصرية الخارجية نموذجًا حيًّا يمكن قراءته من خلال نظريتى عناق القنافد وقبلات الأفاعى رغم ما تتميز به مصر فى سياستها الخارجية بالصدق الإستراتيجى والشرف النادر.
>> فالعلاقة المصرية ــ الإسرائيلية مثلاً ليست علاقة طبيعية دافئة بل شديدة البرودة لدرجة وصلت إلى مرحلة التجمد، هى علاقة تحكمها الضرورات التى أباحت بعض المحظورات التاريخية والسياسية وربما الأمنية، خصوصًا فى ملف غزة وفى ترتيبات الحدود ومكافحة الإرهاب فى سيناء. يبدو الطرفان وكأنهما يتبادلان دبلوماسية باردة، أقرب إلى ما تفعله الأفاعى حين تلامس بعضها دون أن تنوى الصدام، ولكن مع بقاء السُمّ حاضرًا فى الخلفية دائمًا تحسبا لأى عارض.
>>وعلى الجانب الآخر، تبدو العلاقة المصرية مع حركة حماس نموذجًا آخر لـ عناق القنافد. فالعلاقة دافئة فى ظاهرها لأسباب إنسانية وسياسية تتعلق بقطاع غزة، إلا أن القاهرة لا تغفل عن أن لحماس ارتباطات أيديولوجية وإقليمية معقدة وأن احتواء هذا الملف يتطلب قدرًا كبيرًا من الحذر.. فالتقارب هنا ليس خيارًا حرًا بقدر ما هو إدارة لمخاطر أكبر.
>>مصر كذلك مضطرة إلى التوازن فى علاقاتها مع قوى إقليمية كتركيا وإيران.. فبين الرغبة فى تهدئة التوترات وبين الحاجة إلى الحفاظ على نفوذها الإقليمي، تجد القاهرة نفسها أحيانًا أمام ضرورة الاقتراب من قوى كانت التباينات معها أوضح بكثير.. وهذا الاقتراب لا يتم من منطلق الود، بل من منطلق أن حسابات الدولة تختلف جذريًا عن مشاعر الشارع أو رواسب الخلافات التاريخية.
>> الحقيقة أن السياسة الخارجية المصرية تُبنى اليوم على مبدأ أساسي: إدارة التناقضات والسعى إلى حلّها. فالعالم لم يعد يسمح بتحالفات صلبة ولا عداءات مطلقة، بل بعلاقات رمادية تتغير وفقًا لتحولات الإقليم والعالم. ومن هنا فإن أنماط «عناق القنافد» و»قبلات الأفاعي» لم تعد مجرد استعارات بل أصبحت واقعًا يوميًا يحكم تفاعلات المنطقة.
>> فى النهاية، يمكن القول إن عناق القنافد ليس خيارًا محببًا، لكنه فى السياسة واقع لا مفر منه. فالدول ــ مثل القنافد ــ تعرف أنها قد تتأذى من الاقتراب، لكنها تدرك أيضًا أن البقاء منفردة فى البرد قد يكون أكثر فتكًا. ولذلك يجرى العناق رغم الألم، ويستمر رغم الخوف، لأن حسابات المصالح الكبرى أقوى من كل هذه التفاصيل.








