النقاد: اللغة تعبر عن ثقافة الجيل الحالى.. و«الخبط والرزع» جزء من الحالة
رقابة زمان اعتبرت جملة: «يا عوازل فلفلوا» سلوكًا اجتماعيًا منحطًا.. فماذا فعلت رقابة اليوم
مجرد وسيلة ترفيه عابرة، بل كانت منارة ثقافية ومدرسة لتعليم الذوق العام، ومختبراً اجتماعياً يعكس ويُهذب ويعلم فى الوقت ذاته.. كانت لغة الحوار- حتى فى أشد لحظات الغضب والصدام- مصقولة ومُهذبة، تتحدى سطحية الواقع وترفع من شأنه.وترتقى بالذوق العام كان الشتم فيها فناً، والإهانة بياناً فلسفياً، والتهديد حواراً أدبياً موجعاً.
لكن هذا العقد التاريخى بين الفن واللغة يبدو أنه قد تمزق نهائياً.وبات دربا من دروب الماضى، فجأة ومع تغير الاجيال واختلاف الاذواق وبدعم من موجة أفلام «الأكشن والعصابات» المعاصرة، كسرت الشاشة الفضية كل الحواجز.
بات النقاش علنياً ومؤلماً حول استخدام ألفاظ «الشارع الأقصى» فى أفلام ذات جماهيرية كاسحة، لاسيما فى سلاسل مثل «ولاد رزق» وغيرها من الأفلام المثيرة للجدل.. فهل هذا الانحدار اللغوى اعتراف هزيل بعجز الكاتب عن إيجاد البديل القوي؟ أم أنه تطور حتمى يعكس لغة جيل جديد لم يعد يكترث بالتهذيب؟

على مدار عقود، لم تكن السينما المصرية يؤكد صلاح منصور، مدير عام دور عرض الإخوة المتحدون السينمائية، أن اللغة فى زمن الرواد لم تكن مجرد وسيلة للتواصل، بل كانت بنية درامية قائمة بذاتها. ففى تجسيد يوسف وهبى «رمز الفخامة المنهارة»، عندما يغضب، يطلق عبارات فخمة تستهدف القيمة الإنسانية للخصم، مثل: «يا هذا، إنك لا تدرك فظاعة ما اقترفت يداك! إنك نذل لا تليق بك الحياة الشريفة!» تمنح هذه الجمل المشاهد إحساساً بأن الشتيمة نابعة من ثقافة المتحدث وسخطه على انحطاط الآخر. وفى المقابل، كان أنور وجدى «رمز التهكم الراقى» يستخدم لغة سخرية ذكية، مثل: «يا حوش! يا لمامة! يا نور!»، وهى أوصاف تُقلل من شأن الخصم بذكاء لاذع. وحتى فى زمن فريد شوقي، كان التهديد يُحمل بوزن أخلاقى عميق، كأن يقول للمجرم: «أنا مش هسيبك للشرطة، أنا هسيبك لضميرك الميت!». كان المشاهد يشارك عقله فى تفكيك اللفظ المهذب ليخرج منه بالإهانة الأقسي. ولعل أبلغ مثال على هذا الرقى يأتى من واقعة أغنية «يا عوازل فلفلوا»، حيث عارضت الرقابة كلمة «فلفلوا»، لا بدافع الحياء، بل لأنها كانت ترمز لـ»الحقد الشديد»، ورأت الرقابة وقتها أنها دعوة إلى سلوك اجتماعى منحط، مما يؤكد أنهم كانوا يبحثون عن رقى المعنى قبل صراحة اللفظ.

يؤكد الناقد الفنى والمؤلف وجيه حسن: أن أفلام اليوم تضحى بهذا الرقى دفاعاً عن الواقعية المطلقة. فالكاتب يستخدم الكلمة الصريحة ليوهم المشاهد بالعمق والمصداقية، بينما هو فى الحقيقة يهرب من مسؤولية إيجاد مرادف إبداعي. اللغة الصريحة هى مطواة الكاتب العاجز عن تشريح المشاعر بذكاء أو بصياغة جملة قوية ذات رنين، وهى ليست سوى كسل فنى مبرر. ويضيف أن ما نفتقده ليس مجرد ألفاظ مهذبة، بل قدرة الفن على الارتقاء بالجمهور.
ويذهب الكاتب والأديب جمال بركات، مؤسس مركز ثقافة الألفية الثالثة: إلى أن المؤلف هو الملوم الأول، لأن استخدام لفظ صادم يغلق الباب على البحث عن مرادف، وهو «هروب من الإبداع». ويشدد بركات على أن المسألة تتعلق بـ «الصدق الفنى»، فالممثل لا يستطيع أن يجسد شخصية مجرم وهو يتحدث بلغة ‹الإذاعة›، وهنا يكمن التحدي: كيف نكون صادقين مع الشخصية دون أن نكون مبتذلين مع الفن؟
فى تحليل عميق يربط بين اللغة ومسار الثقافة الجمعية، يرى الفنان والكاتب والمخرج ياسر الزنكلونى: أن لغة السينما اليوم انعكاس مباشر للفترة الزمنية التى يعيشها الناس، وهى دليل على انحدار ثقافى وتفكيك متعمد للذوق العام: «اللغة فى الفن الجميل كانت تعبر عن ثقافة المجتمع السائدة. الانتقال من تحية مثل ‹مساء السعادة يا هانم› إلى ‹مساء الفل يا زميلي›، ليس مجرد تحول فى العامية، بل هو وثيقة تاريخية تثبت مدى التراجع الثقافى فى المجتمع ذاته. هذا التفكك شمل الموسيقى؛ فتحول ذوق الجمهور من سماع أم كلثوم وعبد الوهاب إلى سماع المهرجانات و«الخبط والرزع». والسينما اليوم، بترديدها اللفظ السوقي، لا تعكس سوى مستوى أخلاقيات من يلهثون خلف الترند والمفاهيم الخاطئة عن النجاح، ظناً منهم أن هذا هو التنفيس الواقعى الوحيد». ويؤكد الزنكلونى إيمانه بأن هذا التوجه لن يدوم «مهما اختلف المستوى الثقافى العام، لن يبقى فى الذاكرة الجمعية والتراث السينمائى إلا اللغة الهادفة والعميقة والمؤثرة. لا يصح فى النهاية إلا الصحيح».

وفى إضافة فريدة تتجاوز النقد الأدبى إلى التشخيص العلمي، يقدم الدكتور هشام سامى، الناقد الفني، رؤية تحليلية صادمة: «كونى طبيباً وناقداً فنياً، أرى أن ما يحدث فى السينما ليس مجرد سوء اختيار، بل هو أشبه بتشخيص لكسر فى عظام الذوق العام للمجتمع. اللغة هى العمود الفقرى للعمل الفنى، وعندما نستخدم ألفاظاً مبتذلة وصادمة، فنحن لا نعالج الواقع، بل نُحدث فيه شرخاً فنياً لا يلتئم إلا بجهد مضاعف. الابتذال اللفظى هو عرض لمرض ثقافى أعمق، سببه التهاون والتسرع فى البحث عن الإيراد السهل. الفن الجيد مثل الجراحة الدقيقة، يحتاج إلى أدوات نظيفة وحادة «لغة بليغة»، أما لغة الشارع المبتذلة فهى كالمشرط الصدئ، قد تجرح بسرعة وتصدم، لكنها تترك عدوى وتشوهاً دائماً فى وعى المتلقى».

من جهته، يرى المخرج القدير عادل مراد: أن الإفراط فى هذه الألفاظ هو تراجع فى الرمزية وقصر فى النظر الفنى مؤكدا أن «الفن الجيد لا يقول كل شىء بشكل مباشر. أما اليوم، فاللغة أصبحت أحادية البعد، وتقتل أى فرصة لعمق المشهد.» ويؤكد المخرج محسن رزق أن التضحية باللغة هى تضحية بالفن نفسه، ولكنه يضع اللوم على منظومة الإنتاج بشكل عام: مشيرا إلى «إن المشكلة لم تعد محصورة فى ‹كسل الكاتب› أو ‹صدق الممثل›، بل فى ضغط السوق ولهاث البعض وراء الإيراد السريع. يضيف رزق أن اعتقاد البعض بأن إدخال جرعة من الألفاظ الصادمة يضمن صدى إعلامياً وجماهيرياً تفكير يعكس جهلاً بالوظيفة الأساسية للسينما. اليوم، يغيب الذكاء الفنى، ويُستبدل العبقرية الفنية بـ«جرأة اللسان».

يقول مجدى الشيخ مدير دار عرض سينمائى: ان هذه المقارنات تؤكد أن الفارق بين سينما الأمس واليوم ليس فارقاً زمنياً، بل فارق اختيار ومسؤولية فنية وأخلاقية وثقافية. حين كان الفن يسعى للارتقاء، أنتج لنا لغة قادرة على تحطيم الخصم بالاحترام والذكاء. وعندما بدأ الفن فى محاكاة الواقع بكسل، انتهى به الأمر إلى استبدال البلاغة بـ«الصدمة اللحظية». هذا التوجه الجديد يطرح السؤال الأهم على صانعى السينما: هل تستسلم شاشتنا للغة الضحلة، أم ستستعيد رسالتها فى الارتقاء بجمهورها؟ مشيرا إلى أن مستقبل الرقى اللغوى فى مجتمعاتنا معلق على إجابة المؤلف والمخرج والممثل لهذا التحدى، وإلا تحولت الشاشة إلى مجرد صدى صريح وساذج لأقسى ما فى الشارع، بدلاً من أن تكون مرآة تهذيب وتأمل ترفع من شأن الإنسان.

ويشارك حمدي كمال، أحد أفراد الجمهور، رأيه ليقدم خلاصة انطباعات المتلقي العادي: “كمواطن وموظف يذهب للسينما للترفيه، أرى أن استخدام هذه الألفاظ السوقية ليس واقعية، بل هو إفلاس. نحن نذهب للسينما لنرى ما هو أجمل، لنشاهد شخصيات حتى لو كانت شريرة، تتحدث بلغة تليق بالشاشة الفضية. عندما أسمع نفس الألفاظ التي أحاول جاهداً أن أبعدها عن أولادي في المنزل، أشعر بأن السينما تخذلنا. الفن دوره أن يرتقي بنا، لا أن يسحبنا إلى الأسفل. هذه الكلمات الرخيصة تُفقد الفيلم قيمته وتجعله مجرد ضجيج يزول، ولا يمكن أن يبقى في الذاكرة.









