هناك محطات فى التاريخ ليست مجرد أحداث، بل هى عتبات تُقسم الزمن إلى قبل وبعد، وتعيد تشكيل كل ما يليها من مواقف ورؤى وتحولات. وحين أنظر إلى ما عاصرته بوعى كامل، أجد نفسى أمام سلسلة من اللحظات الفارقة التى لا يمكن – بأى منطق – أن تكون قد وقعت صدفة أو تتابعت من دون رابط، بل تبدو وكأنها محطات قطار يقف عندها التاريخ ليأخذ ركاباً وينزل آخرين، بينما يقف فى الظل «ناظر المحطة» يلوّح بالعصا ويعطى الإشارة.
>>>
أولى تلك المحطات كانت فى الثانى من أغسطس عام 1990، عندما أقدمت العراق على احتلال الكويت فى حدث زلزل المنطقة وأعاد تشكيل موازين القوى العربية بصورة لم تعرفها منذ عقود.. لم يكن الاحتلال مجرد خطأ سياسى أو خطوة طائشة، بل كان بداية انكسار عربى واسع، وانطلاق مرحلة التدخلات الدولية المباشرة فى الإقليم.. لقد دخل العراق بعد ذلك النفق المظلم الذى لم يخرج منه إلى اليوم، فيما فقد النظام العربى توازنه وهيبته فى لحظة واحدة، وكأن أحدهم كان يدفع بالعالم العربى إلى الحافة عن عمد.
>>>
المحطة الثانية كانت فى 11 سبتمبر 2001، سقوط برجى التجارة لم يكن مجرد حادث إرهابي، فقد بدا وكأنه الباب الذى خرج منه المارد الأمريكى ليعيد صياغة العالم وفق معادلة جديدة.. أعلنت واشنطن «الحرب على الإرهاب»، وظهرت مفاهيم مثل «محور الشر» و»الدول المارقة»، وبدأت مرحلة الغزو المباشر للدول تحت لافتة تأديب الأنظمة المتطرفة، فيما ظهر جلياً أن كل ما يحدث فى منطقتنا ينعكس مباشرة على السياسات العالمية. كأن أحدهم كان يحتاج هذه الشرارة كى يعيد توزيع أوراق النفوذ فى المنطقة.
>>>
المحطة الثالثة جاءت فى التاسع من أبريل 2003، يوم سقوط بغداد. لم يكن سقوطها مجرد هزيمة عسكرية، بل كان انهياراً تاماً لمؤسسة الدولة، وتبخراً للجيش العراقى قبل أن يصدر بول بريمر قراره الشهير بحله. ما بدا أنه غزو قصير انتهى بتغيير جذرى لخريطة العراق السياسية والديمغرافية، ودخول الطائفية من بابٍ لم يكن أحد يتوقع أن يُفتح بهذا الشكل. مرة أخري، كان المشهد أكبر من مجرد خطأ فى الحسابات. كان هناك من يريد أن يُفتح هذا الباب بكل ما سيجرّه لاحقاً من حروب وصراعات.
>>>
المحطة الرابعة كانت فى الخامس والعشرين من يناير 2011، عندما وصل الربيع العربى إلى مصر بعد أن اجتاح تونس وليبيا، ثم امتد إلى سوريا واليمن ولبنان. هبت ريح التغيير، لكنها لم تكن نسمة ديمقراطية كما بشّر بها البعض، بل عاصفة اقتلعت دولاً وأنظمة وجيوشاً ومستقبلاً كاملاً لشعوب ما زالت تدفع الثمن حتى اليوم. لم يكن المشهد مجرد احتجاج جماهيرى صادق، بل بدا أن هناك من كان يراقب كل شيء ويستغل لحظات الغضب الشعبى ليعيد ترتيب الإقليم من جديد. الربيع العربى لم يكن نهاية مرحلة، بل كان بداية فوضى لا تزال تتوالى فصولها إلى الآن.
>>>
ثم جاءت المحطة الخامسة فى السابع من أكتوبر 2023، هجوم حماس على إسرائيل لم يكن حدثاً عادياً، والرد الإسرائيلى كان بدوره غير مسبوق، إذ استمر شهوراً طويلة واتسعت رقعته ليمس لبنان واليمن وسوريا وإيران. بدا المشهد وكأن المنطقة كلها تتحرك على صفيح ساخن، بينما الغموض يحيط بالمشهد النهائى الذى لم تتضح ملامحه حتى اللحظة. لم يكن ما حدث مجرد معركة بين طرفين، بل حلقة جديدة فى سلسلة اشتباكات أكبر من الطرفين معاً.









