فى مدرجات قسم الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة كان الالتحاق بإحدى الصحف القومية حلمًا لا يناله الكثيرون فى وقت كانت كثير من الصحف المصرية والعربية تفتح أبوابها لخريجى كليات الإعلام وترحب بأفكارهم الشابة خاصة مع بداية التوسع فى إصدار الصحف المستقلة.
فور تخرجى ذهبت لواحدة من تلك الصحف المستقلة كما كنت أظن ولم تمض أيام قليلة إلا واكتشفت أنها خاضعة لسيطرة مجموعة من رجال الأعمال الذين يمولون إصدارها وأمام هذا عليك أن تعلن الحرب على كافة أنواع الفساد أما فساد هؤلاء فعليك أن تغض البصر والسمع عنه لذا كان قرار الرحيل سريعًا.
جريدة «الجمهورية» كانت المحطة الثالثة لى بعد تجربة ثرية فى إحدى الصحف العربية ثم هذه الصحيفة المستقلة التى اتضح لى أنها حقًا لا تعرف للاستقلال طريقًا ولكن تعرف من يطعمها ويمول حملاتها المأجورة التى تؤجج مشاعر القارئ لكن فى الواقع قد تكون الحقيقة هى الفساد بعينه لكن تتوه من أجل خدمة مصالح من يدفع أكثر أما فى الصحف القومية فإن الكلمة توزن بميزان من الذهب قبل أن تكتب لأن أصحابها يدركون أن ما يكتبونه مثل طلقة الرصاص إذا خرجت فلن تعود مرة ثانية.
قبل يومى الأول فى «الجريدة» لم تكن تربطنى بها علاقة فقد تربيت فى منزل يقرأ الأهرام بشكل يومى والوفد الأسبوعى يوم الخميس ومجلة الشباب مطلع كل شهر بجانب مجلة العربى الكويتية لما تحتويه من آراء وتحليلات سياسية أما «الجمهورية» فكانت العلاقة منعدمة إلا فى المرحلة الثانوية حيث كنا نصور الملحق التعليمى الذى تتميز به لأن كثيرًا من الامتحانات كانت تأتى منه.
دخلت إلى مبناها القديم صاحب التاريخ الكبير فى شارع زكريا أحمد ومن الوهلة الأولى شعرت بالعظمة وأدركت أننى فى حضرة تاريخ سرحت فى تفاصيله ولم يعدنى إلى الواقع إلا الصديق العزيز ياسر زين الدين مدير تحرير جريدة المساء المولود الثانى لدار التحرير التى احتضنت جريدة ثورة يوليو والذى كان جواز مرورى لداخل هذا المبنى العتيق بجانب الدور الكبير الذى لعبه ليهدئ من تمردى على بعض الأوضاع التى لمن يكن لى طاقة لاستيعابها فى البداية.
فى الصحف التى عملت بها كان الوضع مختلفاً وفى «الجمهورية» أنا أمام تجربة جديدة لم آلفها بعد فما الصحافة فى إعادة المياه أو إصلاح كسر ماسورة وهذا دور يفعله أى موظف أما أنا فأريد أن أبحر بالكلمات لأسطر موضوعات صحفية مميزة.. مرت أيامى الأولى ثقيلة حتى أسند لى هذا النوع من الشكاوى فى نطاق وزارة الداخلية لأجد نفسى فى رحلة لاكتشاف القاهرة وضواحيها امتدت جنوباً وشمالًا وشرقًا وغربًا عابرة كافة المحافظات والمدن والأحياء حتى القرى كانت لى فيها وقفة.
تعايشت مع مشاكل المواطن وتفهمت ما يرهقه ورصدت أفراحه فى تجربة ممتعة لم يقيدها إلا ضميرى وعلى عكس ما توقعت عشت حالة من الحرية فى كتاباتى فمازلت أذكر تحقيقاً صحفياً أجريته بعنوان «من ينفذ القانون على وزارة تنفيذ القانون» وكان على الأحكام الصادرة لصالح مواطنين على وزارة الداخلية وفور نشره تفاعلت الوزارة وأرست القانون وانتصرت له.
السطور لا تكفى لرصد تجربة مميزة امتدت على مدار 25 عامًا ومازالت تتواصل حتى اليوم و «الجمهورية» تحتفل بعيد ميلادها الثانى والسبعين فكل عام وجمهوريتى قوية شامخة عظيمة بأبنائها المخلصين.








