لم يكن أحد يتخيّل أن تتحول «الخلع»، تلك الفتحة الإنسانية التى شرّعها الدين كطوق نجاة لامرأة تُهان أو تُقهر «أو ربما تشتكى من طريقة زوجها فى التنفس»، إلى أحدث أدوات الاستثمار السريع، فجأة انتقلنا من مفهوم الأسرة إلى مفهوم العائد على الاستثمار، ومن فكرة الشراكة الزوجية إلى إدارة محفظة منقولات لا تخسر أبداً.. هذا ليس ادعاءً ولا نكتة ولا سخرية من امر ما ؛ يكفى زيارة بسيطة لمحاكم الأسرة، أو الجلوس فى دردشة منتصف الليل بين صديقات، لتكتشف أن الزواج عند البعض بات مجرد فترة ضمان للمنتج: تستلم الأثاث الجديد، وتستمتع بالشبكة اللامعة، وتلتقط صوراً بجوار السفرة الإيطالي، ثم تضغط زر الخروج الآمن قبل أن تسقط الأوراق الصفراء على الأرض.
من رحم تشريع جاء للرحمة، وُلد نموذج كوميدى قاتم: زواج قصير الأجل بهدف جمع المنقولات.. إذ تدخل بعضهن الزواج وهنّ يعلمن أنه لن يستمر طويلاً.. ليس لأن الزوج سئ، بل لأن «التارجت السنوى» يجب أن يُستوفى.
السيناريو أصـبح محفوظاً: ابتسامة صفراء، عبارات لطيفة، شهر عسل اقتصادي، ثم «استفادة كاملة» من كل ما هو خشب أو ذهب أو كاش، قبل أن تعلن البطلة: «أنا عايزة أخلع… والحاجات دى عندى كذكرى».. وفى ثانية واحدة يتحــول الزوج من فارس أحلام إلى ATM بشرى، مهمتــه الأساسية تمويل «مرحــلة جديــدة» فى حياة السيدة المتحررة حديثاً.
لماذا تنجح هذه اللعبة؟.. لأن السوق مفتوح، والضمير – للأسف – أصبح أوبشن إضافى.
ضعف الوازع الأخلاقى جعل بعض الزيجات أقرب إلى «وظيفة مؤقتة».. والقانون، بكرمه الشديد، يسمح بالخلع دون كشف الدوافع، مما يتيح للبعض توسيع تعريف «كراهة العشرة» ليشمل «كراهية لون الستائر».
أما سرعة الإجراءات، فهى أسرع من طلب أوردر بيتزا ساخنة: الطلاق العادى سنوات، والخلع مجرد أشهر.. صفقة ناجحة بكل المقاييس.. لكن الطرافة الأكبر ليست فى الخلع نفسه… بل فى ما يكشفه عن أزمة الاختيار فى مجتمع كامل.. الذهنية التى تتعامل مع الزواج على أنه صفقة بلا ضمير، هى نفسها الذهنية التى نراها كل انتخابات: ناخب يختار نائباً لطيف المظهر، خفيف الظل، يعد بالجنة، ثم يخلع الدائرة كلها لحظة دخوله البرلمان.
كما تخلع الزوجة زوجها عند أول منعطف، يخلع النائب ناخبيه عند أول كرسى.
نفس الخطأ يتكرر: اختيار بالعاطفة.. لا بالعقل.
زوج يستسلم للابتسامة، وناخب يستسلم للكلمة الحلوة.
ثم يدفع الجميع الثمن: الأول يخسر أثاث بيته، والثانى يخسر صوته ودائرته ومطالبه.
ما المطلوب؟.. لسنا ضد الخلع، ولا ضد إنصاف امرأة مظلومة.. لكننا بحاجة – فعلاً – إلى تشريعات تعالج الخلع المصلحى كما نعالج «النائب الموسمى».
تشريع يضمن الجدية، ويمنع استخدام الزواج كـ «بيزنس»، ويحمى الرجل الذى أصبح – للأسف – الحلقة الأضعف.
وبالمثل، نحتاج ثقافة تصويت تمنع تحويل البرلمان إلى «منطقة خدمة ذاتية» لبعض النواب.
حتى ذلك الحين، سيظل الخلع – مثل الانتخابات – مساحة يبرع فيها البعض فى اللعب، بينما يسقط آخرون ضحايا سوء اختيار.. وغياب عقل لا يقرأ ما وراء الابتسامة ولا ما وراء اللافتة الانتخابية.









