منذ سنوات والعالم يترقب الوثائق المهمة التى تكشف بوضوح ملامح الاستراتيجيات الوطنية للدول الكبري، ولعل وثيقة الأمن القومى الأمريكية، بكل ما تحمله من خطوط حمراء وتوجهات وآليات حركة، كانت مثالاً بالغ الدلالة على الجرأة فى إعلان الرؤية وصياغة المستقبل بصوت مسموع. فحين تعلن دولة بحجم الولايات المتحدة مشروعها الأمنى أمام العالم، فهى لا تكتفى بإظهار ثقتها فى نفسها، بل تبعث رسالة شاملة إلى خصومها قبل أصدقائها: أن هذا هو طريقنا، وهذه هى حساباتنا، ومن يقترب منها عليه أن يعرف مسبقاً حدود اللعبة. ذلك الوضوح يمنح صاحبه قوة، وتنتزع من الآخرين عنصر المفاجأة أو الرهان على مناطق ضبابية.
>>>
ومن هنا يلحّ على السؤال: متى نرى وثيقة استراتيجية أمن قومى مصرية مكتملة، معلنة، تحمل التصور الوطنى الشامل لمصادر التهديد والتحديات، وترسم بدقة الاتجاهات التى تتحرك عليها الدولة؟ ليس لأن مصر تفتقر لرؤية، بل لأن وضوحها وإعلانها يمنح القوة نفسها التى تمنحها تلك الوثائق للدول الكبري. فالواضح أن السياسة المصرية خلال السنوات الأخيرة تتحرك وفق إطار استراتيجى حقيقي، حتى وإن لم يُصَغ فى وثيقة رسمية معلنة، ويمكن لأى متابع أن يلتقط خيوطه ويدرك طبيعة المشروع الذى تعمل الدولة على إنجازه.
>>>
فالذى نراه بجلاء أن مصر تمتلك مشروعاً وطنياً إصلاحياً واسع الأركان، مشروعاً يهدف إلى إعادة تأسيس الدولة على قواعد صلبة، وتحديث بنيتها الاقتصادية والاجتماعية، واستكمال عملية التحول التى لا يجوز التوقف عنها مهما كانت الضغوط. هناك قناعة عميقة بأن الإصلاح ضرورة وجود لا رفاهية قرار، وأن على مصر أن تستمر فى فتح مسارات جديدة للاستثمار وإعادة ترتيب علاقتها مع القطاع الخاص، بحيث يستعيد دوره الطبيعي، بينما تتراجع الدولة تدريجياً – وبشكل مدروس – عن الأنشطة التى يستطيع هذا القطاع أن ينهض بها بكفاءة أعلي.
>>>
وفى عمق هذا المشروع يبدو جلياً أن إعادة تكوين الطبقة الوسطى ليست مجرد هدف اجتماعي، بل ضرورة استراتيجية. فهذه الطبقة هى الضامن التاريخى للاستقرار السياسى والثقافي، وهى الأرض التى تنبت عليها قيم العمل والانضباط والاعتدال. دون طبقة وسطى قوية يعجز المجتمع عن بناء توازنه الداخلي، وتفقد الدولة مرونتها أمام التحولات. ولذلك تأتى الإصلاحات الثقافية والاجتماعية كجزء أصيل من هذا المسار، سعياً لاستعادة منظومة القيم المصرية التى تعرضت لتشوهات عميقة خلال عقود مضطربة.
>>>
أما فى دوائر الأمن القومي، فليس خافياً أن النظرة المصرية تمتد جنوباً، حيث منابع النيل والبحيرات العظمي، وحيث تتكثف المخاطر التى تهدد وجود الدولة لا مصالحها فقط. فالمشهد فى القرن الإفريقى وما يجرى فى السودان ليس شأناً بعيداً، بل هو خط تماس مباشر مع الأمن القومى المصري. هناك قناعة واضحة أن الجنوب هو الاتجاه الأكثر حساسية، وأن أى اختراق فيه، أو أى عبث خارجي، يشكل خطراً لا يمكن السكوت عليه. ولذا فإن مصر لن تسمح – ولم تسمح تاريخياً – بأن تمتد أيادى القوى الإقليمية أو الدولية إلى تلك المنطقة بما يهدد أمنها أو أمن جوارها الحيوي.
وللحديث بقية









