«بدأت معركة صحافة الثورة ولا أدرى متى تكون النهاية؟»

72 عاماً من التنوير.. من الصحافة الوطنية التى تبنى وتساهم فى الوعي، وتواجه دفاعاً عن ثوابت وقيم المجتمع..
72 عاماً من الصحافة التى تحمل رسالة عنوانها حق المواطن أن يعرف.. 72 عاماً من الصحافة الجريئة الموضوعية..
هكذا هى «الجمهورية».. منذ بدايتها الأولى فى 7 ديسمبر 1953.. حكاية وطنية عظيمة.. كانت انطلاقتها مختلفة عن كل الصحف.. ومسارها.. ورسالتها أيضاً.. ولذلك استحقت أن تكون صحيفة الثورة التى أحبها المواطن.
> عرفت ان كل إنسان منهم يكره الآخر وانه لم يكن يعرفه وكانت المسألة محنة اخلاقية تمر بها صاحبة الجلالة ولم اكن ادرى فى تلك الأيام.. هل المسألة اننا نكره الخير لبعضنا.. ام المسألة اعمق من هذا.
> واصبحت الدوامة التى اغوص فيها أكثر اتساعاً وقوة.
> واطل علينا الشهر الأخير – شهر ديسمبر – حيث لابد لـ«الجمهورية» ان تصدر كما وعدت جمال.. وكنت اذهب إلى جمال عبدالناصر احمل اليه تلك البروفات وفى يقينى انه سيأخذنى فى احضانه مهنئاً.. ولكن جمال يفاجئنى بانها لم تعجبه.
> ودخلت من الباب ورأيته جالسا يتناول طعام الافطار فالقيت بنفسى على مقعد بجواره ووضعت «الجمهورية» على المائدة.. كنت قد وعدته.. وتحقق الوعد.
صباح يوم السبت، 4 يوليو عام 1953، أى بعد عام من قيام الثورة إنى أذكر ما حدث فى ذلك اليوم تمامًا، وكنت قد ذهبت الى مستشفى الدكتور مظهر، حيث كان جمال عبدالناصر هناك بعد أن أجريت له عملية المصران الأعور.. وجلست الى جوار جمال وهو متمدد فى فراشه وبدأنا نتحدث فى موضوع الصحافة، وبالتحديد تحدثنا عن صحافة الثورة!
وقال لى جمال: إن «الثورة» يجب أن يكون لها صحافتها..
والواقع أن مسألة «صحافة الثورة» سبق ان شغلت أذهاننا جميعًا وكان جمال أكثرنا اهتمامًا بالمسألة.
وفى ذلك اليوم، هناك فى مستشفى الدكتور مظهر، كان جمال يعد لى مفاجأة.. فقد قال لى بعد ان تحدث عن ضرورة إصدار جريدة يومية:
– إيه رأيك، المسألة دى عايز أحطها فى رقبتك!..
وقلت على الفور:
استنى عليه شويه، لما افكر..
وخرجت يومها من مستشفى الدكتور مظهر لأفكر..
ومرت ساعات.. وكلما فكرت كبرت المسألة فى نظرى أكثر، وتعقدت وظهرت مشكلة كبرى جديدة ماذا استطيع ان أصنع؟!
إن المسألة ليست هينة على الإطلاق، فإصدار جريدة يومية يتطلب استعدادًا ضخمًا، ولم أكن أرى أمامى فى تلك الأيام أملاً واحدًا يجعلنى أبدأ فى إعداد «الجهاز» الضخم الذى نريده ليلعب دوره فى ثورة الشعب.. ولم تكن تحت يدى أية إمكانيات لإصدار الجريدة اليومية، فقد كنت أعمل صحفيًا فى فترة ما من حياتي، كنت محررًا فى دار الهلال، وعرفت من تجربتى تلك كيف تصدر الصحف الأسبوعية، أما اليومية فمصيبتها أكبر!!
وجلست ذات يوم أتصور «الأجهزة» التى لابد من وجودها والاطمئنان إليها لتتحول فى النهاية الى «جهاز» واحد كبير.. إلى جريدة يومية، تصدر كلما أشرقت شمس يوم جديد.. وتلك الأجهزة هي: المطابع وعمالها، وأسرة التحرير، والإدارة.. والمشكلة الكبرى «التوزيع» فلابد من تنظيم عملية التوزيع حتى يمكن أن تصل «الجريدة» الى أيدى أفراد الشعب، ثم المشكلة الأكبر خطورة- الإعلانات والجريدة- أية جريدة – تعتمد أساسًا علي- الإعلانات- لكى يمكنها أن تصدر بصفة مستمرة!!.. العملية كلها تحتاج إلى هذه الأجهزة، حتى يمكننا ان نقف على أقدامنا.. ومر يومان.. وتعقدت المسألة أكثر فى ذهني.. وذهبت الى جمال عبدالناصر فى يوم 6 يوليو.. وجلست لأقول له بكل صراحة:
– مستحيل.. لا يمكننا إصدار جريدة يومية.. المسألة معقدة جدا.. وعايزة وقت طويل، وعايزة أخصائيين.. ولازم أخصائيين.. وحتى لو وجدناهم فالمسألة ستكون مجازفة!..
ونظر إلى جمال وهو صامت.. وسحب نفسين من سيجارته ثم قال لي:
– أمال احنا عملنا «الثورة ازاي؟!
وساد الصمت لحظة.. ثم مضى يقول:
– الثورة لازم يكون لها صحافتها.. والجرنال لازم يطلع قبل آخر السنة دي!!
ومرة ثانية خيم الصمت علينا، ثم عاد صوت جمال يرن فى أذني.
– اعتبرها معركة.. مثل معركة 23 يوليو.. فلماذا التردد؟!!
ووجدت نفسى أقول له:
– خلاص.. أنا اقتنعت!!
وابتدأت المعركة فعلاً بعد خروجى من مستشفى الدكتور «مظهر»..
كان على ان أبدأ فوراً» فى إعداد «الجهاز الكبير» وأول شيء خطر على بالى فى تلك اللحظة هو الاتصال بالصحفيين، هم زملائى جميعاً: وذهبت أولاً الى دار الهلال، إلى المكان الذى اشتغلت فيه كصحفى فى فترة ما من حياتي..
وخرجت من دار الهلال لتبدأ عملية «لف» على الصحفيين، وأسمع دروسًا فى الإدارة والتوزيع وفى الحفر، وفى الإعلانات، وكل نصيحة كانت مغلفة دائما بغطاء براق من الإخلاص الشديد!!
وكان أول شيء يجب ان يتم هو إيجاد مكان للجريدة.
وفى أول أغسطس استأجرت شقتين فى عمارة جديدة بشارع شريف، فرشت الشقتين كالعادة فى 24 ساعة!
وفى ذلك المكان بدأت أعمل فى إعداد «الجهاز الكبير».. كنت أذهب الى شارع شريف فى الصباح والمساء… وأجلس مع من تيسر لنا من المحررين وأولهم حسين فهمي، ونتناقش ونطرح أمامنا المشاكل التى تعترض سبيلنا لنذللها.
وبعد أيام بدأت فى تكوين جهاز الإدارة.
وفى شارع شريف حيث كنا نعمل، اكتشفت ان جريدة «القاهرة» تحتل دورًا بأكمله فى نفس العمارة التى استأجرت فيها الشقتين، وكنت قد سمعت ان «القاهرة» ستصدر يومية.. أى مثل «الجمهورية»!!..
وفى كل يوم أصعد الى الدور الخامس حيث المكان الذى نعد فيه «الجمهورية» فأرى أفواجاً من الصحفيين تتجه الى الدور الثانى من العمارة.. حيث توجد «القاهرة وأنا ليس معى سوى بضعة أفراد من الزملاء الصحفيين.. وزيادة على هذا فقد سمعت ان «القاهرة» تستعد للصدور منذ عام.. فماذا يمكننى ان اصنع.. وجمال يريد جريدة يومية واسعة الانتشار فى أيام!!..
وانتابنى «الغم» فعلاً، وشعرت ان المعركة ستكون أكبر مما أتصور.. وأشد!..
وجاءت عملية ترشيح المحررين… وكانت مأساة!!..
فكلما رشح البعض أسماء معينة، أبدأ فى السؤال عن أصحابها، فأسمع بعد السؤال طعنًا شديدًا فى أصحاب تلك الأسماء!!
المسألة كانت محنة أخلاقية تمر بها صاحبة الجلالة!..
ولم أكن أدرى فى تلك الأيام.. هل المسألة هى أننا نكرة الخير لبعضنا، أم المسألة أعمق من هذا؟!
على أى حال لقد استمعت الى آراء كثيرة فى أناس كثيرين ولم تكن كلها صحيحة أو لوجه الله!!
وانتهت معركة «المحررين».. بعد ان امتلأت رأسى بالآراء!.
وجاء دور الأقسام.. قالوا لي: إن الجريدة اليومية يتحتم وجود أقسام فيها.. قسم لأخبار، وقسم للمراجعة، وقسم للترجمة، وقسم للتصوير، وقسم للأدب، وقسم للسكرتارية، وقسم فني، وقسم للمتنوعات، وقسم للأقاليم.. وللمراسلين فى الخارج.. وكلما عرفت شيئًا جديدًا أفتح فمى فى بلاهة.
فقد كانت المسألة بالنسبة لى تجربة ضخمة لم أتخيل أبدًا أننى سأمر بها فى يوم من الأيام!
وبدأت أعد إحصائيات عن كل شيء، وأفتح فمى أكثر وأكثر.. وتبتلعنى الدوامة… ولكنى كنت قد اعتبرتها معركة!
وانتهت مسألة الأقسام… وبدأوا يقولون لي: القسم الفلانى عايز، والثانى يريد، والثالث مطلوب له كتب.
وأغوص فى الدوامة أكثر.. ويجتاحنى الإرهاق، لكنها كانت معركة!
وبالرغم من تلك الجهود الجبارة التى بذلناها فى الأيام الأولي، حتى بدأت بعض الأجهزة تتكون.. أقول بالرغم من هذا فقد كان الطريق يبدو أمامنا طويلاً للغاية ومليئاً بالصخور!
كنا كلما بدأنا فى إحدى «العمليات» تبرز لنا أكثر من مشكلة، وكان عددنا يزداد يومًا بعد يوم.. وكانت المعركة تبعاً لذلك تكبر وتتشعب.. وتتضاعف الصعاب!.
وأتذكر الوعد الذى قطعته على نفسى أمام جمال.. وأتذكر قوله لي: إن الجريدة يجب ان تظهر فى «السوق» قبل نهاية العام.. أى بعد أشهر!
وتنتابنى الحيرة ثم تشدنى الدوامة فأغوص فيها أكثر وأكثر..
لم أكن قد انتهيت من المسائل الكبري، لم أكن قد وجدت المطبعة وأجهزة الطبع والحفر والجمع، بل لم أكن قد وجدت «الدار» التى سيعمل تحت سقفها «الجهاز الكبير» الذى سيلعب دوره فى ثورة الشعب!
لكنى كنت قد اعتبرتها معركة.. والإنسان عندما يخوض إحدى المعارك يتجاهل كل الصعاب، ولا يبالى بها..
وعندما وقعنا عقد شراء دار «الزمان» بمطابعها من إدجار جلاد، كنت أظن أن المسألة قد انتهت، وسوف تصدر «الجمهورية» فى أمان الله، قبل آخر السنة!
وكنت قد عرفت ان جريدة «أخبار اليوم» وبعض الصحف اليومية.. كانت تطبع فى مطبعة «الزمان» ومن أجل هذا اطمأن قلبي.. وإذن فمطابع «الزمان» كاملة ولا ينقصها شيء بالمرة، وإذن فـ «الجمهورية» سوف تصل إلى أيدى الشعب.. لكن تبين لى بعد شراء دار «الزمان» ومطابعها أنه من المستحيل أن تطبع «الجمهورية» فى دار «الزمان» وتصل الى أيدى الشعب فى الموعد المحدد كل صباح..
والحكاية بالتحديد هى ان دار «الزمان» لم يكن فيها ماكينات جمع حروف «لينوتيب» عربي، تكفى لجمع مواد جريدة يومية.. وكانت «أخبار اليوم» لديها تلك الماكينات، فكانت موادها تجمع فى دار «أخبار اليوم» وتطبع فقط عند جلاد!
وكان علينا أن نجد «ماكينات لينوتيب» و«إنترتيب» تجمع المواد باللغة العربية.. ولكى يتم هذا يتحتم علينا ان نتعاقد مع إحدى الشركات فى الخارج، ثم ننتظر شهورا عديدة حتى تصل الماكينات إلى مصر.
أى ان «الجمهورية» لن تصدر كما وعد جمال فى آخر السنة وكنا فى أواخر أغسطس..
وليس هذا فقط، فقد اكتشفنا أن دار «الزمان» ليس فيها ورشة «حفر أكلاشيهات» وذلك يتطلب شراء ورشة جديدة فى الحال، لكى تنظم عملية الطبع.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد اتضح ان «الدار» نفسها لا تتسع لمحررين وموظفى الإدارة والتوزيع.. فحجراتها ضيقة للغاية وقليلة..
وأصبحت الدوامة التى أغوص فيها أكثر اتساعاً وقوة، وأحسست أننى لن أكسب المعركة كما كنت أعتقد..
كانت المشكلة معقدة إلى حد اليأس، وصدور «الجمهورية» فى آخر السنة أمر أصبح مستحيلاً!
وفى كل مرة تجذبنى «الدوامة» الى قاعها كانت تحدث معجزة تخلصنى من تلك «الدوامة».. فى ذلك الوقت ونحن نتلفت هنا وهناك بحثاً عن حل للمأساة، تذكرت جريدة «الأساس» التى كانت تصدر فى العهد الماضي، وتذكرت أن لديها ماكينات جمع «لينوتيب» فى حالة جيدة للغاية، فالجريدة لم تكن واسعة الانتشار ولم تستهلك أجهزتها العديدة لانها لم تعش أعواماً كثيرة أيضًا!
وكان ما توقعت.. ذهبنا الى دار «الأساس» «وكان محجوزاً عليها، ورأينا الماكينات الجديدة التى لم تستعمل، واكتشفنا وجود ، ورشة «حفر» فى حالة جيدة.. واشترينا كل شيء.. حتى مكاتب المحررين..
كنت كمن وجد «كنزًا» ولم أكن أشترى الشيء الذى أحتاجه.. بل كنت أشترى أى شيء فى «الأساس» باعتبار أننى سأحتاجه فى المستقبل.
وتنفست فى ارتياح شديد لأول مرة منذ وضع جمال فى رقبتى «حكاية» صحافة الثورة.. ثم فجأة ظهرت مسألة أخري.. مأساة أقصد..
قالوا لى إن «ورشة الحفر» تحتاج عدسة خاصة لا وجود لها إلا فى ألمانيا.. وطلبوا منى شراء العدسة الجديدة لجهاز الحفر.. ثم.. لا أدرى ماذا أقول؟!..
لقد تبين لى كذب ما قالوه، وعرفت ان جهاز «الحفر» لا يحتاج أى شيء من بلاد بره..
والمسألة كانت بصراحة محاولة فاشلة من «البعض» لكسب المال الحرام!
وإلى هنا كنت قد اكتسبت كثيراً من الخبرة، بالرغم من قصر المدة التى قضيتها وسط «الدوامة».
عرفت حقائق أكثر والإنسان طول عمره يحتاج معرفة أشياء جديدة، حتى يمكنه ان يعيش وسط المجموع..
والحقيقة الكبرى التى عرفتها فى تلك الفترة القصيرة التى سبقت صدور «الجمهورية» هى ان الإنسان يمكنه أن يصنع أى شيء حتى لو لم تكن له خبرة به فبالعزيمة والإخلاص يمكنه ان يصل الى نتائج طيبة، مهما كانت الظروف والعقبات!!
وكانت هناك عمليات عديدة يدور العمل فيها فى وقت واحد… فى دار «الزمان» كان البناءون يرفعون «السقالات» فوق الجدران ليشيدوا «دوراً» جديداً يستوعب المحررين وفى المطبعة كانت هناك عملية حفر «خنادق» لإيصال «كابلات» كهربائية لماكينات اللينوتيب التى اشتريناها وفى الحجرات كان عشرات من الزملاء يعملون وينظمون أقسامهم، ويعدون مواد الأعداد الأولي… وفى نفس الوقت كانت عملية إعداد «ماكينات» صفحات «الجمهورية» تستنفد معظم وقتنا..
وكنت قد أحضرت جميع الصحف التى تصدر فى الشرق والغرب.. ووضعناها أمامنا وبدأنا نفكر.. كنا فى شهر سبتمبر… وفى وقت واحد كنا نوسع الدار ونعد الماكينات، وننظم المطبعة، ونحفر الخنادق، ونشترى ماكينات.. وتتساقط على رؤوسنا كلما دخلنا الدار أو خرجنا منها قطع من الطوب، فعمال البناء يعملون فوق «السقالات» ومطلوب منهم الانتهاء من «العملية» فى أسرع وقت نفسه كانت تجرى عمليات تنظيم الإعلانات والتوزيع.. ثم جاء دور الورق.. وكانت أكبر مشكلة صادفتنا!
وهنا كدنا نفقد صبرنا… وأصبح صدور «الجمهورية» فى آخر السنة حلماً يستحيل تحقيقه..
لقد قالوا لى إن كميات الورق المطلوبة لا توجد فى مصر… وأنه لكى تصدر جريدة يومية يجب ان تتعاقد- أولاً- مع إحدى شركات الورق فى السويد أو فى النرويج، وحتى لو تعاقدت، فسوف تنتظر «شحنتك» شهوراً كثيرة، فأزمة الورق عالمية، والطلبات بالدور!
وكنت قد تعودت أثناء إعداد «الجهاز الكبير» أن أبذل المحاولة تلو الأخري، وفى إلحاح وإصرار، حتى أخرج من وسط الدوامة قبل أن تبتلعني.. وفعلاً بذلت محاولات عديدة لأحل «مأساة» الورق، فى الوقت الذى كنت مشغولا فيه بألف موضوع وموضوع.. وكانت آخر محاولة بالنسبة لمأساة الورق هى أننى أرسلت مدير الإدارة فى رحلة الى أوروبا.. وقضى أسابيع فى كلٍ من السويد والنرويج، ثم استطاع ان يتعاقد بعد جهد كبير على شراء كمية من الورق.. وأزيلت صخرة هائلة من طريقنا، عندما حلت مشكلة الورق.
وكانت أسرة التحرير فى أثناء تلك العمليات المتشابكة المعقدة العديدة تكبر ويزداد عدد أفرادها.. وعندما بدأنا نعد التجارب أى «البروفات» اكتشفت مسألة خطيرة تتصل بعلاقات الزملاء بعضهم ببعض..
فهذا لايحب ذاك.. والثانى لا يستلطف دم الثالث، وجعلت من مسألة تسوية الخلافات بين أفراد أسرة التحرير جزءا من عملية إعداد الجهاز الكبير..
لكن تبين لى ان بعض المحررين- وكانوا من أصدقائي- قد فهموا أن أنور السادات- صديقهم- يجب أن يضعهم فوق رأس الجميع.. وكانوا مخطئين!
ولكى لا تحدث «مأساة» تؤثر فى سير العمل اضطررت إلى الضرب بشدة وبقسوة لكى أثبت للزملاء جميعهاً ان الصداقة شيء .. والعمل شيء آخر .. فأنت صديقى وهذا شيء لا خلاف عليه ولا أنكره أما أنك تملك كفاءات لا وجود لها عند الآخرين، فذلك يحتاج منك دليلاً والصداقة ليست دليلا على الكفاءة!
وهكذا كان موقفى من أصدقائى ، كان حتما على ان أعطيهم درسا ما كان أغناهم عنه، لو كانوا قد آمنوا بالعمل، لا بالعواطف!!
وبدأنا نستعرض «الماكينات» لنبدأ التجارب… كان الوقت يمضى بسرعة، وكنا فى وضع يختلف فى كل شيء عن وضع أى ناس يريدون إصدار جريدة يومية..
كان وضعنا يحتم علينا ان نعد إلى جانب الإمكانيات المطلوبة لكل جريدة يومية رأياً قوياً يتفق مع أهداف ثورتنا.. فقد ينجح صحفى لأنه بارع فى «الفبركة» والإثارة ومخاطبة غرائز الجماهير، وقد ينجح صحفى آخر لأنه يسبق دائما فى نشر الأخبار.. وقد ينجح صحفى ثالث لأنه يجيد التلاعب بالألفاظ..
أما نحن فكان علينا أن نكون «ثواراً» لا صحفيين فقط!
كان علينا ان ننشر الحقائق لا الأوهام.. كان علينا ان نقول فى كل صباح للشعب حقيقة جديدة، كانت خافية عليه بحكم وضع «الصحافة» فى العهود التى مضت!
كان علينا ان نقف إلى جوار الأحرار فى مصر وفى خارج مصر… كان علينا أن ندعو إلى ما نؤمن به.. إلى حرية كل الشعوب، وحقوق كل الشعوب، وأمن كل الشعوب.. كان علينا أن نثور على صفحات «الجمهورية» مثلما ثرنا فى الميادين الأخري!
والى الهند الصينية أوفدنا مندوبا عن «الجمهورية» وكان أول صحفى مصرى يصل الى تلك البلاد البعيدة.. حيث المعركة كانت فى عنفوانها، بين شعب الهند الصينية وبين المستعمرين..
وأوفدنا مندوبا إلى ألمانيا الشرقية والغربية، ومندوبا الى تونس، ومندوبا إلى يوغوسلافيا، وكنا نريد ان نبعث بمندوبين الى كل مكان فى الدنيا…
ثم رأينا أن نتفق مع الزعيم «اليساري» الانجليزى «أنورين بيفان» لكى يكتب خصيصًا لـ»الجمهورية» ورأى بيفان يتفق مع رأى الأحرار فى مصر وفى خارج مصر.. ووافق أنورين بيفان.. وكان نصرًا صحفيًا سبقت به الجمهورية كل صحف الشرق..
جمال لا تعجبه البروفات
وأطل علينا الشهر الأخير.. شهر ديسمبر حيث كان لابد لـ»الجمهورية» أن تصدر كما وعدت جمال
إن أروع فترة مرت بى كانت تلك الفترة الأخير ما فى ذلك شك.. فالبروفات بدأنا نعدها.. وكنت أذهب إلى جمال عبدالناصر، أحمل إليه تلك البروفات، وفى يقينى أنه سيأخذنى فى أحضانه مهنئاً، ولكن جمال يفاجئنى وأنا أضع «البروفات» أمامه بنظرات السخرية، فهى لم تعجبه، وهو كان يتوقع أن تكون الجمهورية» أحسن من تلك التى أمامه..
وعرفت حقيقة جديدة .. أن الإنسان الذى يعمل شيئاً لا يستطيع أن يحكم بنفسه على عمله، والغير أقدر على هذا الحكم..
وأخرج من عند جمال .. ثم أعود إليه أحمل «بروفات» جديدة أحسن .. ولا تعجبه أيضاً، فأخرج لأعود .. وهكذا..
كانت «الاقتراحات» كثيرة جداً .. والذين تطوعوا بتقديم اقتراحاتهم لا حصر لهم..
ومن أعجب تلك الاقتراحات، ما قدمه لنا «أحدهم»..
فقد أعد «ماكيت» لـ «الجمهورية» الصفحة الأخيرة فيه باللغة الفرنسية !!.. واقتراحات أخرى أعجب !!..
وقضينا عشرين يوماً فى عمل البروفات حتى وصلنا فى النهاية إلى «الشكل» الذى نريده .. وجاءت اللحظة الحاسمة .. المحطات التى ستخرج فيها «الجمهورية» من خلف جدران ذلك المبنى الأبيض القائم فى شارع الصحافة، إلى أيدى الشعب فى الشمال والجنوب..
وفى مساء 7 ديسمبر كان المبنى الأبيض يموج بالصخب .. كنا جميعاً آباء ننتظر المولود الجديد .. وفى المطبعة وقفت ومعى حسين فهمى بين العمال والمحررين والمصححين، وكنت أتنقل بين ماكينات الجمع ثم أهرول إلى ورشة الحفر، ثم أسرع إلى «شاسيهات» التوضيب، كنت أتتبع عملية إخراج أول عدد من «الجمهورية» فى جميع مراحله، وقد امتلأت بالقوة.. تلاشت فجأة كل عوامل الإرهاق، وشعرت فى ذلك اليوم بأننى أقوى بكثير من الأيام السابقة.
ومضت الساعات وأنا فى المطبعة أترقب «المولود» الجديد.
ثم وقفت إلى جوار المطبعة الضخمة التى سيخرج من بين أحشائها المولود الجديد العزيز.. وكانت الساعة قد قاربت الثانية صباحاً… وضغط مهندس المطبعة على «الزر الكهربائي» ودارت المطبعة…
وتلقفت المولود بين يدى كأى أب استجابت السماء لدعواته.. وخرجت من المطبعة الى الشارع.. كنت فى سيارتى وبين يدى «الجمهورية» أقرأ كل حرف فيها للمرة المائة أو الألف.. لا أدري..
وكانت خيوط الصباح البيضاء قد بدأت تزيح عن القاهرة رداء الليل الأسود، وبدأ الناس يخرجون من بيوتهم.. ثم بدأ باعة الصحف يزعقون.. «الجمهورية» .. «الجمهورية»..
ورأيت المولود العزيز بين يدى الشعب.
وخيل إليَّ فى تلك اللحظة أنى أسعد إنسان فى القاهرة..
واتجهت بالسيارة الى منزل جمال عبدالناصر… ودخلت من الباب ومعى «المولود» ورأيته جالسًًا يتناول طعام الإفطار، فألقيت بنفسى على مقعد بجواره، ووضعت «الجمهورية» على المائدة..
كنت قد وعدته وتحقق الوعد..
كان قد قال لى اعتبرها معركة مثل 23 يوليو.. واعتبرتها معركة فعلاً.. فهل شعرت يوما بعد أن رأى «المولود» الحياة أن المعركة انتهت..
وهل خرجت بعد ذلك من الدوامة الرهيبة؟!
إن المعركة انتهت!!
أبدَا.. لقد كانت المعركة فى بدايتها.. ان «صحافة الرأي» معركة لها بداية، أما النهاية فلا أحد يدرى متى تكون؟!









