أقدم الصحف اليومية الوطنية الموجودة باللغة العربية التى أسسها أبناء الوطن نفسه



تشابهت ثورة يوليو 1952 إلى حد بعيد مع الثورة الفرنسية التى يحتفى بها العالم، ولم يكن هذا التشابه واضحًا فى لحظتها إلا أنها تجلى خلال السنوات الأولى منها، لتثبت الأحداث لنا ذلك، فهى ثورة كما وصفها السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى أسست للجمهورية الأولى بكل أركانها، فألهمت الشرق الأوسط ودول أفريقيا، وكذلك كانت الثورة الفرنسية التى ألهمت النظم الأوروبية تباعا.
هدفت الثورة الفرنسية إلى خلق وعى وطنى مستدام وهو بالضبط ما حققته ثورة يوليو.. ولكل هدف آليات تحققه فكانت الصحافة الآلية الرئيسية لتحقيق أهداف الثورة الفرنسية ومن أبرز الصحف التى نشأت معها كانت: لو جورنال دى ديبا (Journal de Débats)، جازيت ناسيونال (Gazette Nationale)، ولو مونيتر (Le Moniteur)، إضافة إلى صحف ثورية مثل لو بوبليسيتيه (Le Publiciste) ولو كورييه دو بور (Le Courrier du Bour) جميعها أغلق خلال سنوات.
أما فى مصرنا فكنا أكثر فطنة وأكثر إلماما وبدلا من التجارب الصحفية المتفرقة المشتتة التى انهارات بعد سنوات قليلة عقب الثورة الفرنسية، خرجت إلى النور روح الثورة متجسدة فى جريدة ناطقة بصوت الشعب الذى ظل فى أشد حالات المعاناة.. هى جريدة «الجمهورية»، و»الجمهورية» اليوم هى أول جريدة فى العالم تخرج من رحم ثورة اجتماعية وتظل باقية مستمرة مستدامة لأكثر من 72 عاما.
استمرارية جريدة «الجمهورية» من الثلاثاء 7ديسمبر 1953 إلى اليوم هو نقطة مضافة جديدة لرصيد إنجازات الجمهورية المصرية الأولى والجديدة معا، فلو أن «الجمهورية» ارتبطت بمجلس قيادة الثورة لتوقفت بحد أقصى بعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر، لكنها جريدة وطنية خرجت من رحم ثورة أعادت دولة لأبنائها وأهلها فكانت جريدتها معبرة عن آمال هذا الوطن ومواطنيه وكان هدفها على الدوام النهوض بفكره، وجريدة «الجمهورية» مع ذلك هى أقدم الصحف اليومية الوطنية الموجودة باللغة العربية التى أسسها أبناء الوطن نفسه.
خرج العدد الأول من الجريدة متكامل الأركان ليس فقط بالمقارنة مع نظرائه من الجرائد الموجودة فى الشرق الأوسط آن ذاك بل بالمقارنة بمعايير الصحافة العالمية وقتها.. قد يرجع ذلك للاهتمام الكبير من الرئيس أنور السادات بالعدد وقتها وكان أول مدير لتحريرها فحرص على انتقاء كوكبة من ألمع الصحفيين المهنيين، الذين أسسوا لروح هذه الجريدة من يومها الأول، وعلى الرغم من أن الجريدة خرجت للنور فى ظروف سياسية بالغة الحساسية إلا أنها حملت ملحقًا خاصًا الفن، وكأنها تؤكد أن الهدف هو استعادة هذه الهوية الوطنية فى نفوس الجميع.
لم تقتصر «الجمهورية» فى أول أعدادها التى أصبح تشكل هوية الجريدة، على نقل الأخبار بشكل عادى بل يمكن القول أن وجود مقالات بقلم الرئيس عبدالناصر والرئيس السادات جعلها تولد كبيرة من حيث الاسم وأيضا من حيث الثقل، فكان كبار المفكرين فى مختلف المجالات يكتبون فيها حول موضوع واحد، لكن كل برؤيته وهى المدرسة الصحفية التى أصبح ينتهجها العالم الآن بفكرة «موضوع العدد» وهو ما لم يعرفه أحد وقتها، لكنها رؤية تشكلت من بنات أفكار نخبة وطنية تأثرت كلها بروح تأسيس الجمهورية الأولى فحمل كل عاتقه مسئولية ما يكتب من أجل بناء وعى متكامل وليس أدل على الحرص على نهوض «الجمهورية» بالعقل الجمعى فى رؤيتها ورسالتها المفعولة على صفحاتها من مقال الزعيم عبدالناصر على صفحاتها «فلنصارح».
السجل المعاصر
«لقد أخرجت عدداً لم تسبقه إليها أية صحيفة فى الشرق» عبارة من افتتاحية العدد الثانى من الجريدة، وليس فيها أى مبالغة فالأرشيف يحكى لنا أنه لم يوجد أحد من النخبة الفكرية أو المهنية لم يكن من كتاب الجريدة فى مقالات رأيها لكن اللافت اكثر هو الجيل المهنى الذى سعى لصناعة تغطية صحفية مختلفة فكانت الصورة ناطقة على صفحاتها الأولى بسرد تفصيلى للأحداث ونقل عبر شبكة مراسلين محترفين، ولذلك فإن كل أعدادها هى وثيقة حية لما مرت به مصر.
وتتابعت الأحداث على الوطن تترى فإذا ما أراد أحد أن يؤرخ لها جميعها من مصدر واحد ستكون جريدة «الجمهورية»، التى استطاعت أن تحقق فن صحافة الأزمات كما هو فى أهم صحف العالم.. كانت الأعداد بدءًا من العدوان الثلاثى الذى قدمت له تناولا تفصيليا لما جرى على أرض الميادين المصرية عبر شبكة مراسليها فحملت على صفحاتها الأحداث كفيلم تسجيلى يرصد كل التحركات بكاميرا لا قلم، ظهرت هذه المعالجة المختلفة أيضا فى محاكمات الجماعة الإرهابية 65 والتى أفردت الجمهورية لنص المحاكمات صفحات واسعة وعبر أيام عديدة كأنها كانت تدرك مدى الخطر الدائم لهذه الجماعة فأرادت كشف حقيقتها بنص اعترافات أفرادها أمام كل القراء.
أعداد «الجمهورية» فى الأحداث الجسام مرجع لمن أراد أن يعرف مصر بنظر شعبها الثاقب، فهى على الدوام كما يحمل شعارها «صوت الشعب»، ويسمع من يجلس بين أعدادها هذا الصوت واضحا فى كتابة مانشيتات حرب 67 واستقالة الرئيس عبدالناصر ثم يسمعه مرة أخرى فى حرب الاستنزاف ومانشيتات إغراق إيلات مثالاً.. ثم يسمعه تارة ثالثة جهوريًا واثقا فى نصر أكتوبر.. وليست المانشيتات وحدها الناطقة بل كانت الصفحات كلها مسموعة التعبير فى إخراجها ومرئية الأحداث فى سرد مادتها الصحفية.
لم يقتصر هذا التوثيق الوطنى على عهد الجريدة فى القرن الماضى بل من أعدادها المعاصرة ما لن ينساه قارئها، بداية من عدد ثورة 30 يونيو 2013 «الملايين فى الميادين» وصولا إلى «طوفان العودة» فى 2025، و»الجمهورية» كما يظهر فى كل أعدادها أنها لم تكن للحظة صحيفة قومية محلية وهى كذلك ليست مختصة بالشأن الإقليمى أو المحلى ولكنها جريدة تحمل رؤية «جمهورية مصر» ولا تنقلها فقط، وبالضرورة أن تنقل كل الصحف هذه الرؤية لكن تناول ما وراء الخبر فى محتواه يؤكد الإيمان العميق بهذه الرؤية والعمل عليها، ولذا فالجريدة ليست سجلا تأريخيا لأحداث مصر ولكنها سجل الرؤية الوطنية يمكن الاعتماد عليه فى التأريخ من الدول الصديقة والشقيقة، فعلى صفحات الجمهورية نقلا لأحداث قد لا تكون صحف هذه الدول فكرت فى رصدها.
التأسيس الثانى
شهدت معالجات الجريدة طفرة يسجلها أرشيفها، حيث أصبحت الجريدة هى الأولى فى الوصول لمحافظات مصر وأقاليمها كأول جريدة تهتم بهذا الشأن وتنشغل بالشعب فى كل أركان الوطن، وهى طفرة تحققت على يد الكاتب الصحفى الكبير الأستاذ سمير رجب، والأستاذ سمير تتعدد الكتب والمؤلفات التى تحدثت عن شخصه وإنجازه لكن يحسب له تحقيق ما يمكن أن يطلق عليه التأسيس الثانى للجريدة بوضع منظومتها التحريرية والإدارية وتطوير وتهيئة مكاتبها فى المحافظات وتعيين عدد من الكوادر خريجى الإعلام وغيرها من بذور تجنى الجريدة ثمارها اليوم.
بناء الوعي
ولم تقتصر المعالجة الصحفية للأحداث على الرصد المباشر فقط أو حتى الرصد التحليلى بعد وقوع الحدث بل عملت الجمهورية على تكوين تصورات مبكرة للأحداث والعمل على مواجهتها بالفكر، على سبيل المثال رصدت الجريدة مبكرا إرهاصات العدوان الثلاثي.. أدركت المؤامرة المحاكة ضد المشروع الوطنى فردت على ذلك بخطاب تنموى شامل يوضح ما تقوم به الدولة وما لا تريده الدول العظمي.
وهذه الإستراتيجية المهنية ظلت ممتدة على مدار السنوات ففى دراسة تحليلية منشورة بالمجلة العلمية لبحوث الصحافة بعنوان «تأطير الصحف القومية لخطط إفشال الدولة المصرية وتداعياتها» بعد تولى السيد الرئيس عبد الفتاح السيسى فى 2014، وكشفت الدراسة أن «الجمهورية» شاركت بفاعلية فى مواجهة الخطط المعادية عبر تأطير خطاب حماية الدولة من محاولات إفشالها، حيث أظهرت النتائج اتفاقًا مع نظرية التأطير الإعلامى من حيث تنوع الأطر التى اعتمدت عليها الجريدة فى أسلوبها التحريرى كما أوضحت النتائج أن «الجمهورية» ركزت فى أطر الحلول على تشكيل الوعى العام كمدخل أساسى لتحصين الدولة، فى مقابل تركيز الصحف الأخرى على مجرد متابعة ما تقوم به الجهات المعنية.
تكرر الأمر ذاته فى مواجهة الأفكار الهدامة والتيارات المتطرفة كما تكشف صفحات الجريدة فى الثمانينيات وإلى اليوم، ولا تقوم الاستمرارية فى الجريدة على اتباع نفس المنهج التحريرى فقط وإنما على التطوير به سواء فى الشكل أو المضمون وكان عام 2025 شاهدا على ذلك بما قدمته الجريدة من حملات موسعة لردع الروايات التى سعى الكيان الصهيونى وصناعتها أو الشائعات التى عملت الجماعة الإرهابية على إنتاجها.
المعايير المهنية
حددت المنظمات العالمية المعنية بشئون الصحافة عددًا كبيرًا من المعايير المهنية لنجاح الجريدة من أبرزها هى القدرة على صناعة الاختلاف فى معالجة الأحداث بحيث تحقق تميزا عن مختلف الصحف الأخرى المناظرة وهو مبدأ التزمت به الجريدة منذ يومها الأول إلى الآن، يأتى أيضا ضمن المعايير المهنية دمج التقنيات المعاصرة وفى ورقة أكاديمية بعنوان Journalists in Network Society: Utilization of ICTs inside Three Egyptian Newsrooms، تناولت شكل التحول الرقمى داخل غرف الأخبار المصرية، وثّقت أن جريدة الجمهورية كانت أول صحيفة مصرية تنتقل إلى استخدام الإنترنت عام 1996، حيث ظهرت نسختها الإلكترونية الأولى كصورة مسحوبة Gif/Jpeg لصفحات الجريدة المطبوعة، وأوضحت أن تجربة الجمهورية مثلت البداية التقنية لاقتحام الصحافة المصرية المجال الإلكتروني، وإن كان دون توظيف كامل لإمكانات الوسائط الجديدة أو دمج أدوات الاتصال الرقمى فى غرف الأخبار.
أشار الباحث إلى أنه خلال أربع سنوات فقط من تدشين اعتماد الجمهورية على النظم الرقمية، التحقت 18 صحيفة مصرية أخرى بالعالم الرقمي، ليصبح وجود النسخة الإلكترونية جزءًا من هوية المؤسسات الصحفية، وتنتهى الدراسة إلى أن تجربة الجمهورية رغم محدوديتها التقنية فى البداية، فإنها شكّلت لحظة انطلاق التحول الرقمى للصحف المصرية، وفتحت الباب لتوسّع وجود الصحافة القومية على الويب حتى بدأت فكرة التحديث والتفاعل والوسائط المتعددة والمواقع تظهر تدريجيًا بعد عام 2005.
الدمج التقنية مستمر إلى الآن فى الجريدة ونجد خلال 2025 استطاعت «الجمهورية» توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعى فى تحسين جودة الصور المستخدمة وإنتاج صور تعبيرية مع التزام المحددات المهنية لذلك والإشارة لهذا الاستخدام تماما مثلما يحدث فى الصحافة العالمية كما يتم استخدام هذه التقنيات فى الكشف عن المحتوى قبل نشره لضمان الأصالة فى كل ما يكتب وهى بذلك تسبق الكثير من الصحف المحلية.
التناول المتعمق
ضمن أبرز المعايير المهنية الحديثة للصحافة هى تناول الأحداث الجارية والتعمق فيها وقد أجريت دراسات عديدة عبر أزمنة مختلفة حول تناول الصحف المصرية لقضايا بعينها نحو الوقوف على أقوى المعالجات الصحفية، وكانت جريدة «الجمهورية» فى الصدارة بها جميعا، وعلى سبيل المثال أظهرت نتائج دراسة تحليلية موسعة صدرت عن كلية التربية النوعية بجامعة المنوفية عام 2015 بعنوان «معالجة الصحف المصرية لقضية خصخصة التعليم العالى فى مصر»، أكدت أن «الجمهورية» كانت أوسع الصحف تنوعًا فى مناقشة صيغ خصخصة التعليم العالي، حيث تناولت جميع الصيغ المقترحة دون استثناء، وأبرزت الدراسة اعتماد «الجمهورية» على الفنون الخبرية بنسبة 88.8 ٪، مع حضور واضح للتحقيقات والمواد التسجيلية التى دعمت التغطية بمصادر رسمية ورؤى حكومية، بما يعكس الطابع المؤسسى للجريدة.
انتهت الدراسة إلى أن الجمهورية مثّلت خلال تلك الفترة المنصة الأكثر حضورًا وتأثيرًا فى تشكيل النقاش العام حول خصخصة التعليم العالي، بما قدمته من توثيق، ومساحات نشر واسعة، وتغطية شاملة تمتد عبر كافة الصيغ المعروضة داخل منظومة التعليم، اتفقت مع ذلك نتائج دراسة تحليلية وميدانية حديثة صدرت فى المجلة العلمية لبحوث الصحافة 2024 بعنوان أطر معالجة الصحف المصرية لقضايا العنف ضد المرأة،حيث أسفرت النتائج بوضوح عن تصدّر جريدة «الجمهورية» المرتبة الأولى من حيث حجم التناول والاهتمام، حيث سجلت 315 معالجة من أصل 628 تم رصدها بإجمالى 50.2 ٪، لتصبح الأكثر حضورًا وتغطية وخلصت فى تقريرها النهائى إلى أن الجمهورية كانت الجريدة الأكثر انخراطًا ونشاطًا فى معالجة قضايا العنف ضد المرأة فى البيئة الصحفية المصرية خلال فترة القياس، وبأكثر الأشكال تكرارًا وتنوعًا فى الفنون والتناول، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
مقروئية الجريدة
كشفت دراسة ميدانية موسعة صدرت عن جامعة دمياط، تناولت اعتمادية الجمهور المصرى على وسائل الإعلام فى متابعة الأحداث السياسية، عن أن جريدة الجمهورية جاءت ضمن أكثر الصحف اعتمادًا لدى العينة الممثلة المجتمع المصري، فى إطار مجمل وسائل الإعلام (تليفزيون، راديو، إنترنت، صحف) بنسبة 26.7 ٪ متقدمة على «الأهرام» التى سجلت 24 ٪ ومتفوقة كذلك على «الأخبار» التى بلغت 22.7 ٪.
أوضحت الدراسة ذاتها أن متابعة الجمهور لـ»الجمهورية» ترجع إلى تميز تغطيتها وتقديمها للموضوعات بصورة تحريرية وإخراجية جاذبة رغم اختلاف القراء حول اتجاهاتها، الأمر الذى يجعلها ــ وفق الدراسة ــ صحيفة قادرة على جذب المتابعين حتى وإن اختلفوا مع محتواها، لأنها تظل مصدرًا يقدم رواية واضحة تجاه الأحداث الكبري.
أدبيات أخرى عديدة تقارن بين اللغة التحريرية لجريدة الجمهورية بالمقارنة مع الصحف المصرية الأخرى لتكشف أنها تعتمد تماما على اللغة المباشرة القادرة على الوصول بشكل سريع بالمعلومة للإدراك دون إرهاق للقارئ مع استخدام الحد الأدنى من الألفاظ العامية وهو من التحديات الكبيرة لكن مع ذلك تجعل الجريدة أقرب للمواطنين بل وتعمل على تعزيز ثقافة الحديث.
صحافة التنمية
الصحافة الفرنسية والبريطانية والأمريكية ثلاثتهم يشكلون المدراس الصحفية الكبرى التى خرجت من رحمها صحافات ببنية أخذت من هذا أو أضافت لذاك، ومع الاختلافات الجوهرية بين المدارس الثلاث إلا أن القائمين على تخطيط وتنظيم وتحرير مؤسساتهم وعلى مر العقود يجمعون على أن مفهوم «الصحافة التنموية» هو المعيار الرئيسى لتقييم المادة التحريرية المنتجة ووفقا لتعريف اليونسكو والممارسات القائمة فى ضوئه بالصحف الكبرى فإنها صحافة تشجع عمليات التنمية فى الدولة وتنقل المنجزات التنموية وتسعى لبناء الاجماع وتقريب وجهات النظر فى المجتمعات.
لكن جريدة «الجمهورية» استطاعت أن تضيف لهذا المفهوم أبعادًا لم يسبق أن حدثت فى العالم، فلم تقتصر على تحقيق ما تفعله الصحف الكبرى ولم تقنع بالمساهمة فى التنمية الفكرية بل أصرت أن تكون شريكا فعليا فى عملية التنمية عبر «رحلة الجمهورية لأوائل الثانوية العامة» ولم أكن كباحث أدرك أهمية هذه الرحلة حتى وجدت أن أغلب السادة عمداء الكليات ورؤساء الجامعات بل ووزراء حاليون وسابقون كانوا ممن استفادوا من هذه الرحلة، وعندما كنت فى حديث مع أحد عمداء الكليات حول تجربته فى رحلة «الجمهورية» فأخذ يحكى لى أنها شكلت طفرة فى حياته وأثرت على أعوام دراسته فى الكلية ثم تفكيره فى الماجستير والدكتوراه وجعلته يتجه إلى النشر الدولى الذى أدى إلى ارتفاع ترتيب الكلية فى التصنيفات الدولية مع بحوثه لنيل درجة أستاذ، دفعنى ذلك لسؤال المزيد ممن أعرف أنهم خرجوا فى هذه الرحلة من عمداء مختلف الكليات فوجدت أن جميعهم يتفق على ذات الإفادة من الرحلة.
رحلة «الجمهورية» التى لم تنقطع إيمانا برسالة الجريدة وبدعم مؤسسات الدولة يمكن لنا القول أنها استطاعت أن تحقق لحد بعيد أثر البعثات العلمية التى شملت جيل عميد الأدب العربى وأقرانه فشكلت جيلا من رواد التعليم الجامعى أسس المدرسة المصرية فيه.
يرتبط مفهوم «صحافة التنمية» بمفهوم «الخدمة العامة» وهى الخدمات التى تقدمها الجريدة للقراء تسهيلا عليهم وكانت قديما ترتبط بمواعيد الصلاة والطقس والعملات ثم تطورت وأضيف إليها مواعيد السينما والمسارح والحفلات ثم ظهرت فكرة شكاوى المواطنين ، وأرشيف «الجمهورية» زاخر بهذه الخدمات منذ إطلاق الجريدة لكن شأنها فى ذلك شأن كافة الصحف، الأمر المختلف الذى أسسته «الجمهورية» كمدرسة خاصة بذاتها فى صناعة الخدمة العامة ولم تنظرها أى تجربة صحفية فى العالم «ملحق الجمهورية التعليمي»
الاتجاهات الحديثة
وسائل الإعلام منذ نشأتها بداية من «الطرق على الطبول» إلى نشأة الصحافة فى القرن الـ16 لها هدف واحد رئيسى «أنت تصل بالمعلومة غير المعروفة للقارئ» وبالتالى فإن ظهور وسائل جديدة بالضرورة أن يكون لها تأثيرات على الوظيفة المنوط بها وسيلة أخرى فترفع عنها أعباء وتضيف إليها أخري، وقامت مجلة sage – إحدى أشهر المجلات العلمية فى البجوث الاجتماعية ــ بإجراء سلسة دراسات مطولة ترصد تغيير دور الصحافة بداية من السبعينات استنادا لانتشار التليفزيون بنسبة تتجاوز 90 ٪ بأغلب المجتمعات آن ذاك.
طرحت الدراسات فى هذا التوقيت ــ سبعينيات القرن الماضى أن الصحافة لم يعد لها دور أساسى فى نقل الخبر الذى يمكن المتلقى أن يعرفه فى وقتها من خلال التليفزيون ويكتفى لها بعرض موجز إخبارى أما الدور الرئيسى أصبح يقوم على طرح ما وراء كل خبر من خلال التقارير أو التحليلات الإخبارية، ثم بداية الألفينات ومع الانتشار الضخم للمواقع الإلكترونية كشفت الأبحاث عن أن الدور الذى لابد على الصحافة الورقية أن تقوم به هو «خطاب العقل» The discourse of reason بمعنى التركيز على التحقيقات والتحليلات الموسعة والمتعلقة بأسباب الخبر وليست حتى التحليلات الخبرية باعتباره دورا تتحمله أو تقوم به المواقع الصحفية الإلكترونية ولو تقاطع الدوران لاختار المتلقى أيسرهما وأسرعهما واستغنى عن المطبوع.
يعتبر هذا هو الأساس العلمى الذى نجحت فيه الصحف الأجنبية بل وزادت معدلات توزيعها بشكل ملحوظ فى عدد من الدول، وهو أيضا الاتجاه الذى اتبعته جريدة «الجمهورية» منذ منتصف 2024 بتقليل مساحات المواد الخبرية المجردة وإضافة التحليل إليها مع فتح مساحات واسعة من التحليلات النقدية والفكرية والعلمية ولم يقتصر الأمر على الزيادة بل أصبحت مخططة بشكل منظم عبر إضافة تبويبات ثابتة للصفحات النوعية مع إطلاق ملحق «حكاية حلوة» هذا العام ليعبر عن خطة مصر لاستعادة الهوية.
هذا إلى جانب الصفحات المتخصصة التى تمتاز بها الجريدة وتشكل قيمة مضافة فى مجالها وفى سياق صحافة التحليلات ومنها مثالا صفحة «الجمهورية معاك» التى تتبنى رؤية الدولة فى الاستماع لشكوى المواطن والعمل على حلها وتمثل قناة اتصال فعالة يرتبط بها الناس، وصفحة «أجراس الأحد» التى تعتبر أول صفحة متخصصة فى الشأن القبطى بالصحافة القومية المصرية كذلك تعتبر من روافد تحقيق رؤية دولة المواطنة، كذلك فى شأن الدين الإسلامى تعتبر صفحة «الدين للحياة» من أهم الصفحات الدينية بالصحافة التى تعمل على تجديد الخطاب الدينى وتعزيز الفكر الموسع الذى يربط مبادئ الدين بمتغيرات الحياة.
الاستدامة
يمكن القول إن ما تقدمه جريدة الجمهورية اليوم هو استثمار لإرث 72 عاما من الصحافة المهنية الوطنية بغير إفراط فى التمسك بمنجز أو تفريط فى منهجية ثبت نجاحها، بشكل يجعلها قادرة على توظيف كافة المتغيرات التكنولوجية المعاصرة فى إنتاج محتواها الصحفى مع الحفاظ على أصالتها، وهو النموذج المعمول به فى تشغيل الصحافة العالمية الآن عبر أكواد سياستها التحريرية وكذلك كما كانت لسان حال ثورة يوليو 1952 أصبحت لسان حال ثورتنا فى 30يونيو 2013 .
ثم تضيف الجريدة إلى ذلك استلهام فكر القيادة السياسية فى صناعة الإنجاز الوطنى عبر 11عاما، الدولة تحقق إعجازات متعددة فى تحقيق الاستدامة بالإنجازات المختلفة..استدامة مواردها وتاريخها وهويتها وفكرها وأمنها، هذا ما تستلهمه جريدة «الجمهورية» اليوم فى العمل على استدامة الوعى والحس الوطنى واستدامة الردع الذاتى والشعور العام بالرضا.
وخلال السنوات الأخيرة كان دعم الدولة المتمثلة فى الهيئة الوطنية للصحافة برئاسة المهندس عبدالصادق الشوربجى أحد أهم أسباب استمرار الجريدة فى رسالتها الوطنية وتأكيد من الدولة أنها حريصة على الصحافة ومساندة لدورها فى التنوير وبناء الوعى ومناقشة كافة قضايا الوطن بموضوعية وجرأة. اليوم تستمر الجريدة فى الالتزام بالمبدأ الذى قامت عليه منذ 72 عاما.. نشأت الجريدة كصوت الشعب فى جمهوريته الأولى فانعكس ذلك فى كل ما تقدم وعملت أن لاتسبقها فى تنفيذ ذلك أى صحيفة بالشرق، هى كذلك اليوم تعمل أن تكون صوت المواطن المتحدث إليه بآماله وطموحه ووطنيته ونشاطه فى بناء جمهوريته الجديدة، ولتكون كما ينبغى مرآة واقع الدولة التنموية الرائدة الطموحة.









