ذهبتُ فى جولة ميدانية لإعداد قصة إنسانية لـ «الجمهورية معاك»، بعد أن وصلتنى رسالة من أهالى إحدى المناطق الشعبية يشكون فيها من كثرة المشكلات التى تضغط على حياتهم اليومية.. وبما أننى كنت قريبة من المكان، قررت أن أراها بعينى بدلاً من أن أكتفى بالاستماع والقراءة، لكن المفاجأة أنه منذ اللحظة الأولى لم أقابل الكوب الفارغ كما توقعت، بل وجدت نصفه المليان.. وربما أكثر.
ما إن دخلتُ الشارع حتى شعرت أننى أمام مشهد مختلف تماماً، لفت نظرى مشهد إنسانى رائع، أهالى المنطقة يعتنون بالحيوانات الضالة بعفوية شديدة، حيث خصصوا لها فى قطعة أرض فضاء «جردلين»، وحفروا مساحة صغيرة ووضعوهما هناك أحدهما للطعام من بقايا منازلهم، والآخر للمياه.
ثم استكملت جولتى بين الناس، فوجدت ما يشبه نادياً اجتماعياً مفتوحاً فى قلب الحارة.. مجموعة من السيدات يجلسن معاً يحكين همومهن ويأخذن النصيحة من بعضهن بمحبة، وأخريات يجلسن فى هدوء يبحثن عن لحظة ونس، وأخريات ذاهبات للصلاة فى المسجد، والمشهد بسيط لكنه يشبه تجمعات النوادى فى المناطق الراقية، والفارق الوحيد أن قلوب هؤلاء الناس مليئة بالخوف على بعضهم والاهتمام هنا الحقيقي نابع من القلب.
بعد بضع خطوات، كان هناك احتفال خطوبة بسيط فى منتصف الشارع، «دى جي» صغير، سماعات عالية، وزينة تملأ المكان، الفرحة هنا كان يتقاسمها كل من فى الشارع، والجميع «مستحمل» الصوت العالى من أجل فرحة العرسان، كان الجميع سعيداً كأن الفرح ملك لهم جميعاً.
لم أكمل خطوات كثيرة حتى وجدت افتتاحاً لمحل جديد، غوريلا ترقص، وتنورة تدور، وأطفال يتزاحمون بضحكات صافية، ورغم الازدحام الذى ملأ المكان، ظل الأهالى يبتسمون ويدعون لصاحب المحل بالتوفيق، قد يرى البعض أن هذه المشاهد غير لائقة أو مصدر إزعاج، لكن عند البسطاء هى لحظة فرح مجانية.. يوم مختلف يدخل بيوتهم بلا موعد..وفى الخلفية، كان التوك توك يعزف لحنه المعتاد، واحد يشغّل أغنية عالية، وآخر يذيع قرآناً كريماً، وثالث يطلق كلاكساته بإيقاع لا يتوقف، والغريب لم يكن شيئاً من هذا يزعج أهالى الشارع، بل بالعكس.. كان يعطى للمكان روحاً خاصة رغم ضجيجه الذى يعتبرونه مبهجاً، ضجيج صاخب لكنه حيّ فهم يجيدون فى صناعة الحياة من الزحام..وخلال جولتى رأيت أطفالًا يركضون حفاة خلف كرة قديمة، يصنعون من أرض الشارع ملعباً كاملاً بلا تكلفة ولا تعقيد، وسيدة تفرد غسيلها على حبل ممتد بين شباكين، تبتسم للجميع وكأن الشارع هو بيتها الكبير، ورأيت شاباً يصلح دراجة صديقه فى منتصف الطريق دون ازعاج من المارة او تعقيدات للأمور، حتى عربة الفول التى تنتشر رائحتها الشهية فى الهواء كانت مركزاً يجتمع حوله العمال والطلاب والأطفال دون تفرقة، وراديو قديم يغنى بكلمات أم كلثوم من شباك مفتوح كان يمنح المكان لمسة حنين.
خرجتُ من المنطقة وأنا مدركة شيئاً واحداً، وهو أن المناطق الشعبية مجتمع صغير يعيش أهله تفاصيله البسيطة بحب، يحوّلون الضجيج إلى حياة برضا، والزحام إلى دفء وونس حقيقي.. هكذا وجدت نصف الكوب المليان.. وهكذا تبدأ الحكايات دائماً.









