عندما نقرأ إستراتيجية الأمن القومى الأمريكى التى صدرت مساء الخميس فى 33 ورقة، فلابد أن نتوقف كثيراً على المفردات الإستراتيجية التى أشارت إليها تلك الوثيقة شديدة الأهمية، ففى قراءة مبدأية تجد الولايات المتحدة نفسها اليوم أمام لحظة فارقة فى تاريخها السياسى والعسكري، لحظة تتجاذبها قوتان متناقضتان: إرهاق استراتيجى عميق تراكم عبر عقود من الانخراط الخارجى المكثف ظهرت أعراضه فى هذا «التواضع الإستراتيجي» النادر، واستدارة اضطرارية نحو عالم يتغير بسرعة ويفرض عليها إعادة تعريف أولوياتها الحيوية. هذا التوتر بين الإرهاق والتحول يعكسه بوضوح مضمون وثيقة الأمن القومى الأمريكية لعام 2025، التى تكشف عن توجه غير مسبوق فى صياغة العقل الإستراتيجى لواشنطن ورؤيتها لدورها العالمي.
منذ مطلع القرن، خاضت الولايات المتحدة حروباً طويلة ومكلفة فى أفغانستان والعراق، وانخرطت فى إدارة أزمات الشرق الأوسط، وتورطت فى صراعات سياسية واقتصادية ممتدة مع الصين وروسيا. هذا العبء الهائل أنتج إرهاقاً مؤسسياً عبّر عن نفسه فى التراجع عن نمط التدخلات الكبري، وفى تصاعد تيار داخلى يطالب بالتركيز على إعادة بناء الداخل الأمريكى قبل السعى لإصلاح العالم. وبات واضحاً أن القدرة الأمريكية على فرض الهيمنة العالمية بالأساليب التقليدية لم تعد كما كانت، سواء بسبب الكلفة الاقتصادية أو الانقسام السياسى الداخلى أو انتقال مراكز القوة الدولية إلى شرق آسيا.
الوثيقة الجديدة تظهر هذا الإرهاق جلياً من خلال تقليص أولوية الشرق الأوسط وإفريقيا، بعدما شكّلتا لعقود ساحة رئيسية للتدخل الأمريكي. فقد تراجعت اللغة القديمة التى كانت تربط أمن الولايات المتحدة بالوجود العميق فى المنطقة، وحل مكانها خطاب يدعو إلى مراقبة الأزمات دون الانخراط المباشر، والاكتفاء بإدارة المخاطر والتحديات عن بُعد. هذا التحول لا يعنى انسحاباً كاملاً، لكنه يعكس إدراكاً بأن الأكلاف باتت أعلى من العوائد، وأن الولايات المتحدة لم تعد ترى فى المنطقة مركزاً لهيمنتها المستقبلية.
لكن فى المقابل، تأتى استدارة الضرورة التى تفرضها البيئة الدولية الجديدة. فالصين، التى باتت القوة الصاعدة الأكبر، خلقت تحدياً بنيوياً للولايات المتحدة لا يمكن تجاهله. غير أن اللافت فى الوثيقة هو أن واشنطن لا تتحدث عن مواجهة شاملة كما فى الوثيقة السابقة، بل عن منع الحرب وإدارة التنافس. فالحفاظ على الوضع الراهن فى مضيق تايوان، وتعزيز التحالفات الدفاعية فى المحيطين الهندى والهادي، أصبحا أدوات لردع الصين دون دفعها إلى صدام مباشر، خاصة فى ظل تشابك اقتصادى لا تزال الولايات المتحدة حريصة على إبقائه فى مستويات غير حساسة أمنياً.
وفى الوقت الذى تتراجع فيه واشنطن عن بعض الساحات، تتقدم بقوة نحو ساحتها التقليدية: نصف الكرة الغربي. فالمنافسة مع الصين فى أمريكا اللاتينية باتت مسألة وجودية وليست مجرد لعبة نفوذ، والهجرة غير النظامية والجريمة المنظمة تحوَّلت إلى تهديدات داخلية مباشرة. يظهر ذلك فى تشديد الوثيقة على تعزيز الوجود العسكرى والدبلوماسى فى المنطقة، وتوسيع الاستثمارات، وضبط الممرات البحرية، فى استعادة واضحة لروح «مبدأ مونرو» الذى بموجبه منعت أمريكا دول أوروبا من العبث بفضاءاتها الخلفية فى دول أمريكا اللاتينية، ولكن بوجه جديد يناسب القرن الحادى والعشرين.
أما أوروبا، الحليف التاريخى للولايات المتحدة، فتنظر واشنطن إليها اليوم بقلق مزدوج: قلق أمنى يتعلق بالحرب فى أوكرانيا، وقلق ثقافى يتعلق بما تصفه الوثيقة بـ»تراجع الهوية الغربية» وصعود الأحزاب الشعبوية. ولذلك تدفع الولايات المتحدة باتجاه تسوية سياسية سريعة للنزاع بين روسيا وأوكرانيا، حفاظاً على استقرار القارة ومنع انزلاق الناتو إلى مواجهة مباشرة مع موسكو، فى وقت لم تعد فيه واشنطن مستعدة لحمل العبء الأكبر منفردة.
ويفتح هذا التحول ما يمكن وصفه بـ «الإرهاق الإستراتيجى الذى خلق حالة التواضع الاستراتيجى لدى العقل الأمريكي»، وهو إدراك من واشنطن بأن إدارة العالم لم تعد ممكنة بالأدوات القديمة ولا بالقدرات المنفردة نفسها. هذا التواضع، الذى يفرض على الولايات المتحدة تقليص حضورها المباشر فى عدد من الساحات، يخلق فراغات جيوسياسية واسعة، خصوصاً فى الشرق الأوسط وشرق المتوسط والبحر الأحمر. وفى هذا السياق، تبدو المرحلة المقبلة مرشحة لظهور ترتيبات إقليمية جديدة، حيث يصبح على قوى محورية مثل مصر وتركيا وإيران والسعودية أن تفكر فى تشكيل كونسرتيوم براجماتى لإدارة هذه الفراغات وضبط توازناتها. مثل هذا التكتل لا يقوم على اتحاد سياسى أو تحالف أيديولوجي، بل على مبدأ المصالح المتبادلة وتنسيق السياسات الأمنية والاقتصادية، بهدف حفظ الاستقرار الإقليمى ومنع دخول قوى خارجية منافسة، وخلق مسارات تعاون واقعية تتعامل مع التحديات المشتركة بعيداً عن منطق الصراعات الصفرية. إن غياب اليد الأمريكية الثقيلة، ولو نسبياً، يفتح المجال أمام الفاعلين الإقليميين لصياغة نموذج جديد من الشراكة يقوم على المبادرة الذاتية، بدلاً من انتظار إدارة واشنطن للمشهد كما كان الحال لعقود.
إن أمريكا اليوم ليست كما كانت قبل عقد أو عقدين. الإرهاق الإستراتيجى دفعها إلى مراجعة ذاتية عميقة، واستدارة الضرورة فرضت عليها جدول أولويات جديداً. بين هذين الاتجاهين تتحرك واشنطن فى عالم يزداد تعقيداً، عالم لم تعد فيه القوة العسكرية وحدها كافية، ولا النفوذ الاقتصادى مضموناً، ولا التحالفات ثابتة كما كانت. ويبقى السؤال المطروح: هل تنجح الولايات المتحدة فى إعادة ابتكار دورها العالمى بما يتناسب مع عصر المنافسة الكبرى، أم أن هذا التحول هو بداية مرحلة تراجع طويل المدى؟ المؤكد أن العالم يقف اليوم أمام نقطة انعطاف فى تاريخ القوة الأمريكية، وأن ما بعد هذه الوثيقة لن يكون كما قبلها.









