تعد الفطنة السياسية صفة مركبة تتجاوز مجرد المعرفة النظرية بالشؤون العامة، لتشمل القدرة على الاستبطان، وقراءة ما بين السطور، وترجمة الأحداث المعقدة إلى حكمة عملية. وفى سياق المجتمع المصرى، لا تعد هذه الفطنة مجرد مهارة، بل هى خبرة موروثة تشكلت عبر آلاف السنين من التعامل مع دولة قوية، وموجات متتالية من القوى الأجنبية والمحلية، مما صقل وعى المواطن وجعله خبيرا فى فنون البقاء والمساومة السياسية. إن المواطن المصرى، بتراثه الطويل، يمتلك بصيرة سياسية فريدة تستحق التحليل العميق.
والدولة المصرية تعود اللبنات الأولى لها للفطنة السياسية المصرية، من جغرافية البلاد وتاريخها الطويل. ومع توالى الاحتلالات الأجنبية، من الهكسوس مروراً بالدولة العثمانية وانتهاءً بالاحتلال البريطانى، تطور الوعى الشعبى ليصبح أداة للمقاومة الناعمة. ففى ثورات مثل ثورة 1919، لم يكن الوعى مقتصراً على القيادات السياسية، بل تجسد فى الوحدة الوطنية وتكتيكات العصيان المدنى التى أظهرت قدرة هائلة على تنظيم المقاومة الشعبية وتوجيهها بذكاء نحو أهداف محددة، مما يدل على نضج سياسى لا يعتمد فقط على النصوص، بل على التجربة المتراكمة.
وتتميز الفطنة السياسية للمواطن المصرى بخصائص فريدة تميزها عن نظيراتها فى ثقافات أخرى.
ويعرف المواطن المصرى بقدرته العالية على «فك شفرة الضمنى»، أى استخلاص المعانى الحقيقية خلف التصريحات الرسمية، وتحليل لغة الجسد، وقراءة التطورات الإقليمية والدولية. ففى بيئات سياسية تفرض قيوداً على التعبير المباشر، أصبح تحليل النفى بمثابة تأكيد، وقراءة الصمت بمثابة تصريح. هذه المهارة ليست وليدة العبقرية الفردية، بل هى آلية دفاعية تتطلب مستوى عالياً من التركيز والربط بين الأحداث لتكوين صورة كاملة للمشهد السياسى.
ولعل أبرز سمات الوعى السياسى المصرى استخدام السخرية والنكتة السياسية كأداة فعالة. النكتة فى مصر ليست مجرد تسلية، بل هى صمام أمان اجتماعى وتعبير مبطن عن الرفض. إنها تتيح للمواطن التعبير عن أشد درجات النقد والاعتراض دون تحمل التكلفة المباشرة للمواجهة. هذا النوع من «المقاومة الناعمة» يظهر حكمة عميقة، فهو يحقق هدف التنفيس عن الغضب ويبقى الوعى العام متقداً، وفى الوقت نفسه يتجنب الانزلاق إلى الصدام غير المحسوب.
ويتسم المواطن المصرى ببراجماتية عالية، حيث يوازن بين الضرورات المعيشية مثل الأمن الاقتصادى والاجتماعى، وبين التطلعات السياسية. هذا التوازن يجعله قادراً على تقبل التنازلات بهدف تحقيق استقرار أكبر. لكن هذه البراجماتية لا تعنى النسيان. فالذاكرة المصرية السياسية قوية، وهى تخزن التجارب السابقة لاستخدامها كمرجع عند تقييم الأحداث الجديدة. إنه يفهم أن الفعل السياسى قد لا يأتى بنتائجه فوراً، بل قد يتطلب صبراً استراتيجياً.
وفى العصر الحديث وخاصة مع ثورة الاتصالات وظهور وسائل التواصل الاجتماعى، اكتسبت الفطنة السياسية المصرية أبعاداً جديدة. لم يعد المواطن مجرد متلق للمعلومات، بل أصبح محللاً ومقارناً ومشاركاً. فالمشاركة فى النقاشات السياسية عبر المنصات الرقمية، رغم ما قد يشوبها من ضجيج، تدل على اهتمام متجذر بالشأن العام، وتؤكد قدرة المصرى على الوصول إلى المعلومة والتمييز بين المصادر.
ومع ذلك تواجه هذه الفطنة تحديات معاصرة أبرزها تسونامى المعلومات، وصعوبة التمييز بين المعلومات الحقيقية والمضللة الأخبار الزائفة، مما قد يؤدى أحياناً إلى «التفسير المفرط» لكل حدث صغير.
إن الفطنة السياسية للمواطن المصرى هى مزيج متفرد من الحكمة المتراكمة، والمناورة الذكية، والسخرية اللاذعة. إنها ليست مجرد صفة عابرة، بل هى عمق حضارى يضمن أن يبقى المواطن المصرى رقيبا، وإن كان صامتاً فى بعض الأحيان، وأن يستمر فى تشكيل مسار وطنه عبر رؤية ثاقبة تستلهم الماضى وتقرأ الحاضر بدقة متناهية. هذا الوعى المستمر هو الضمان الحقيقى لمستقبل الأمة.









