ليست الحروب وحدها هى التى تفتت كيان الأمم، فهناك معارك أخري، أبطأ وتيرةً، لكنها أشد فتكاً، تدور رحاها فى صميم النسيج الاجتماعي، إنها حرب القيم – التى تقودنا إلى العنف المجتمعي- تلك التى لا تُعلن، ولا تُسجل تقاريرها فى نشرات الأخبار، ولكن خسائرها تُحصى كل صباح فى وجوه المارة، وفى فقدان الثقة بين الجميع، وفى ذلك الصدأ الخفى الذى ينخر فى عظام المجتمع، حتى إذا ما جاءت لحظة الحقيقة، بدا الهيكل كله عاجزاً عن المقاومة.
وتنتج عن تلك الحرب ظاهرة «العنف المجتمعي» وهى قضية متعددة الأوجه تنتقل من الأسرة إلى المدرسة نتيجة: «البيئة الأسرية المشحونة بالعنف، ونقص الوعى الاجتماعى والتربوى لدى الأهل، والتأثر بالنماذج العنيفة فى الإعلام»، مما يتسبب ذلك العنف فى مشكلات نفسية واجتماعية للطلاب، وتتطلب معالجته تضافر جهود الأسرة والمدرسة والمجتمع بأكمله، مع التركيز على التربية السليمة وتعزيز القيم الإيجابية.
إن الخطر الذى يواجه مجتمعنا اليوم ليس خطراً عابراً؛ إنه تحول جيولوجى فى الأخلاقيات العامة. نحن إزاء انهيار صامت، يشبه تماماً انهيارات العصور، لكنه ليس فى الحجر، بل فى الضمير.. دائماً ما كانت المجتمعات العظيمة تقوم على عقد غير مكتوب، بين الأفراد وبينهم وبين دولتهم، قوامه الثقة والمسئولية والكرامة، لقد شهدنا تحولات كبري، من حقبة الاستعمار إلى زمن الاستقلال، ومن الحلم القومى إلى واقع الدولة الوطنية، ويمكننى القول إن ما نراه اليوم هو أحد أخطر الاختبارات التى تواجهها «الدولة» ذاتها.
فالدولة، فى مفهومها الحضاري، ليست جهازاً بيروقراطياً، بل هى «كيان أخلاقي» قبل كل شيء، وعندما ينهار هذا الكيان الأخلاقي، تتحول إلى مجرد آلة عاجزة، حتى وإن كانت تمتلك كل مقومات القوة المادية.
وهذا ما كتبه المفكر الإيطالى أنطونيو جرامشى عن «أزمة الهيمنة» التى تحدث عندما يفقد النظام – أى نظام – سيادته الأخلاقية والفكرية.
والأرقام لا تكذب، لكن تحتاج إلى قراءة ما بين السطور.. وها هى بعض المؤشرات التى تنذر بالخطر على المجتمعات:
** فجوة الثقة: تشير استطلاعات معهد إدلمان لقياس الثقة (2024) إلى أن الثقة فى الحكومات والمؤسسات الإعلامية فى أدنى مستوياتها تاريخياً على مستوى العالم، فالناس لم يعودوا يصدقون لا الخطاب الرسمي، ولا غير الرسمي.
** الهروب من المسئولية: دراسة أجراها المركز المصرى للبحوث الاجتماعية والجنائية (يمكن الرجوع إليها) أشارت إلى أن 70٪ من الشباب فى عينة البحث يرون أن «الواسطة» و»المحسوبية» هى الطريق الوحيد لتحقيق النجاح، مقابل 20٪ فقط يرون أن «الجهد والمهارة» هما الأساس، هذه إحصائية أكثر خطورة من كل تقارير البطالة، فهى تعنى أن الإيمان بجدوى العمل نفسه فى طريقهِ إلى الزوال.
الفرق بين المجتمعات التى تنهض وتلك التى تنهار، ليس فى حجم التحديات، بل فى «رأس المال الأخلاقي» الذى تمتلكه لمواجهتها. دول مثل سنغافورة تحت قيادة لى كوان يو، لم تبنِ نهضتها على الاقتصاد فقط، بل على مشروع أخلاقى صارم لمحاربة الفساد وترسيخ النزاهة، لقد فهموا أن التنميــة بدون قيم، هى كالبناء على رمال متحـــركة.. ومن هنـا نــدرك كيف أن الرئيس السيسى دائم المطالبة بزيادة الوعى وبأهمية الخطاب الأخلاقى فى الإعلام والدراما، بهدف إعادة تأسيس «الجمهورية الأخلاقية» التى يجب أن تسبق أى جمهورية سياسية.









