فى غيبة العقل تتقدّم المشاعر لتتسيد الموقف، وكأن الإنسان يصبح فى لحظة ما مخلوقًا تحرّكه الانفعالات وتدفعه الأحاسيس إلى اتخاذ مواقف لا تشبه ما كان سيقرره لو أن عقله حاضر بكامل وعيه. والسؤال الذى يبدو بسيطًا فى ظاهره، معقّد فى عمقه: هل غياب العقل هو الذى يسمح للمشاعر بأن تنطلق بلا ضابط، أم أن قوة المشاعر نفسها هى التى تدفع العقل إلى الخلف، وتحاول إزاحته لتبقى هى المتحكمة فى سلوك الإنسان وتقييمه للأحداث؟ ما نعرفه أننا، كبشر، نعيش حالة صراع مستدام بين صوت العقل وصوت القلب، بين منطق التجرد واندفاع الهوي، بين ما ينبغى فعله وما نرغب فى فعله. وهذا الصراع، على شدته، يمكن تقبله حين يتعلق بعلاقاتنا الخاصة، كقصة حب، أو علاقة أسرية، أو صداقة، أو موقف اجتماعى له جذور إنسانية. لكن حين يمتد هذا الصراع إلى إدارة الشأن العام، تصبح المشكلة أكثر تعقيدًا وأعمق أثرًا، لأن نتائجها تمس مجتمعًا بأكمله لا فردًا واحدًا.
>>>
وقد اعتدنا أن نرى هذا الصدام بين العقل والمشاعر فى مختلف القضايا العامة، كالصراع الدائم بين أنصار النوستالجيا وأنصار الحداثة، أو بين المدافعين عن القطاع العام والمتحمسين للخصخصة. تجد مثلاً مؤسسة تواصل الفشل عامًا بعد عام، وتغرق فى الخسائر، ورغم ذلك يصر البعض على الدفاع عنها لأنها تتعلق بذكرياتهم أو بارتباط نفسى أو رمزى لا علاقة له بالأداء أو الجدوي. هنا تتغلب المشاعر على المنطق، ويتراجع العقل أمام ما يعتقده الشخص «وفاءً» أو «ولاءً»، بينما هو فى الحقيقة حكم انفعالى لا أكثر.
>>>
ينسحب هذا الأمر اليوم على مسألة الانتخابات البرلمانية وما أثير حولها من شكوك ثم تأكيدات، وصولاً إلى حكم قضائى بوقوع مخالفات جسيمة فى مرحلتها الأولي. هنا ظهر تياران: تيار تدفعه مشاعر الغضب والاحتجاج ويرى أن الحل الأمثل هو إلغاء الانتخابات بالكامل وإعادتها من جديد، وتيار آخر يرى أن مؤسسات الدولة تصدت للمخالفات وصوّبت ما كان معوجًا، وأن الواجب هو استكمال بناء المؤسسات التشريعية مهما كانت التحديات ما دامت الحقوق قد عادت إلى أصحابها. ومن يتأمل الموقفين يلاحظ بوضوح كيف يلعب العقل دورًا فى أحدهما، بينما تتحكم المشاعر فى الآخر. ليس لأن المطالبين بالإلغاء على خطأ، بل لأن الغضب – حين يشتعل – يجعل الفرد يرى أن الحل الجذرى هو الخيار الوحيد، حتى لو كان مكلفًا أو غير واقعي. وفى المقابل، حين يُحتكم إلى العقل، قد يصل المرء إلى نتيجة مختلفة تمامًا: أن استمرار العملية الانتخابية مع تصحيح الأخطاء هو المسار الأقرب إلى مصلحة الدولة واستقرار مؤسساتها، وأن ما طُلب من الرئيس بشأن إعادة الحقوق قد تحقق بالفعل، وبالتالى فإن المضى قُدمًا أكثر حكمة من الهدم وإعادة البناء.
>>>
لو وسّعنا الدائرة أكثر، سنجد أن هذا الصراع ذاته يتكرر فى معظم قضايانا الكبري. كم مرّة جعلتنا مشاعرنا نتخذ مواقف حادة ثم، حين هدأت نفوسنا واستدعينا عقولنا، وجدنا أن الحكم مختلف تمامًا؟ كم من قضية رأيناها بعين الغضب أولاً، ثم بعين العقل ثانيًا، فاكتشفنا أننا كنّا نبالغ أو نتسرع أو نُحمّل الأمور أكثر مما تحتمل؟ لا أتحدث هنا عن الهوى بمعناه السلبى أو المصالح الضيقة أو الأغراض الخاصة، بل عن المشاعر الطبيعية التى يقع تحت سلطانها جميع البشر، تلك المشاعر التى قد تدفعك إلى موقف يبدو لك فى لحظته هو «الأصح»، بينما الحقيقة أنه مجرد رد فعل انفعالى لا أكثر.
>>>
لهذا أدعو نفسى قبل أن أدعو غيرى إلى مقاومة هذا الاندفاع العاطفي، وإلى تدريب النفس على عصيان الهوى بمعناه الانفعالي، والالتزام بطريق العقل والمنطق، والوزن بموازين الصالح العام فى كل قضية نتعامل معها. لسنا مطالبين بأن نتخلى عن مشاعرنا، فهى جزء من إنسانيتنا، لكنها يجب أن تكون ضوءًا داخل الطريق لا أن تكون الطريق كله. نحب بأفئدتنا، ونتحمّس ونتألم ونغضب، لكن إدارة الشأن العام تحتاج عقلاً لا يتغيب، وإلى رؤية تتجاوز ردود الفعل اللحظية. المشاعر مهمة، لكنها ليست معيارًا لاتخاذ قرارات مصيرية تتعلق بمستقبل دولة أو مصير ملايين البشر.
>>>
إن ما نحبه بقلوبنا قد لا يكون دائمًا ما يخدمنا حين ننظر إلى المصلحة العامة بعين واسعة. وما نطمئن إليه عاطفيًا قد لا يكون هو الخيار الأفضل حين تُعرض المسألة على ميزان العقل. لذلك تظل نصيحتى لنفسى ولكل من يقرأ: إياك وتغييب العقل، لأن العاطفة مهما سمت ستبقى عمياء، بينما العقل – حين يحضر – يمنحنا القدرة على رؤية الصورة كاملة، لا مجرد زاوية منها.









