إلى هذا الحد وكفى. لم يعد المجتمع المصرى قادرًا على تحمّل مزيد من الفوضى التى تضرب شتى المجالات بدون رادع أو ضابط. لسنا بحاجة إلى استعراض قائمة المظاهر السلبية التى باتت تشكّل، مجتمعة، تهديدًا حقيقيًا للبنيان الوطنى وقيم المجتمع؛ فلست هنا بصدد الحديث عن الانفلات الأخلاقى فى المدارس واعتداء الطلاب على معلميهم، ولا عن حوادث التحرش داخل المؤسسات التعليمية، ولا عن المشاهد المؤسفة التى واكبت بعض جولات الانتخابات، رغم خطورتها جميعًا. ما يهمّنى فى هذا المقال هو جانب محدد وخطير يتفاقم يومًا بعد يوم: فوضى المحتوى على السوشيال ميديا، واستغلالها لتحقيق أرباح وركوب موجات «التريند» بأى ثمن، ولو على حساب الأمن الغذائى والاقتصادى والصحى للمصريين.
>>>
لقد أصبح مشهدًا متكررًا أن يخرج علينا شخصٌ مجهول التخصص، لا يملك تأهيلاً علميًا ولا خبرة مهنية، ويبدأ فى إطلاق ادعاءات خطيرة بلا دليل ولا منهج. مرة نسمع حديثًا عن ذبح الحمير فى المسالخ وبيعها للمواطنين، ومرة عن أوبئة تفتك بالثروة الحيوانية أو الداجنة، وثالثة عن تصدر مصر قائمة الدول المنتجة للأدوية المغشوشة، ثم موجة جديدة يشكك أصحابها فى جودة منتجات وطنية أساسية كالعسل وزيت الزيتون، وحتى مياه الشرب. تساؤل بسيط يفرض نفسه: من هؤلاء؟ ومن منحهم الحق فى الحديث فى ملفات علمية واقتصادية وصحية دون أى مؤهل؟
>>>
إن الخطورة لا تكمن فقط فى المعلومات المغلوطة، بل فى تجاوز حدود المؤسسات الرسمية، وكأن كل مواطن أصبح مخولاً للقيام بدور الدولة فى الرقابة والفحص والتحليل وإعلان نتائج «تحقيقاته الخاصة» على الجمهور! هل يُعقل أن يأخذ شخصٌ عادى عيّنة من منتج مجهول المصدر أو الظروف، ثم يذهب بها إلى معمل تحاليل، ويدفع رسومًا ويستلم تقريرًا، ثم يظهر على منصته ليعلن اكتشافات تهزّ الرأى العام وتؤثر على استثمارات بمليارات الجنيهات؟ ما هذا العبث؟ ولماذا لا يتقدّم الشخص ذاته ببلاغ رسمى للجهات المختصة لإجراء تحقيق علمى موثق؟ الإجابة واضحة: الهدف ليس الحقيقة، بل «التريند» والمشاهدات والربح السهل.
>>>
المؤسف أن بعض المؤسسات المعنية لا تتعامل بالجدية المطلوبة مع هذا النوع من الشائعات المسمومة التى تمس الأمن الغذائى وصحة المواطنين وثقة المجتمع فى منتجات بلده. وكأننا اعتدنا حالة التراخي، حتى تجرأ كل من هبّ ودبّ على تقديم نفسه باعتباره خبيرًا أو محللاً أو باحثًا، بينما هو فى الحقيقة هاوٍ غير مؤهل لا يدرك حجم الضرر الذى يخلّفه.
>>>
أنا لا أدافع عن جهة بعينها، ولا تربطنى أى مصلحة بهذه الملفات، لكننى أشعر بالغيرة على الدولة ومؤسساتها، وأرى أن الصمت على هذه الفوضى لم يعد مقبولاً. إن ما يحدث اليوم هو اختبار للدولة قبل أن يكون قضية رأى عام. فإما أن يكون هؤلاء الأشخاص صادقين فى ما يطرحونه، وهنا يجب محاسبة الجهات الرقابية والمنتجين إن ثبت وجود تقصير أو فساد، وإما أن يكونوا مروّجين لمعلومات مضللة تستوجب إحالتهم فورًا للمحاكمة بتهمة بث الذعر والإضرار بالاقتصاد الوطني.
>>>
وفى الحالتين، يبقى المجلس الأعلى للإعلام مسئولاً عن التعامل مع هذه الظاهرة بصفته الجهة المنوط بها ضبط المحتوى الإعلامى والرقمي. من غير المقبول أن يظل المجال مفتوحًا بلا ضوابط، وأن يُترك الجمهور فريسة لكل صوت مرتفع مهما كان جهله أو غرضه. من حق الجميع التعبير، لكن ليس من حق أى شخص الحديث فى تخصصات علمية وفنية دقيقة دون مؤهل، وليس من حق أحد نشر نتائج «تحاليل شخصية» على الملأ دون أن تمر عبر القنوات القانونية الرسمية. هذا ليس حرية رأي، بل فوضى تهدد صحة الملايين واستثمارات ضخمة.
>>>
لقد سبقتنا دول كثيرة فى فرض الانضباط، وعلى رأسها الصين التى جرّمت ظهور أى غير متخصص للحديث فى العلوم والطب والأمن الغذائي. وبدلاً من أن نستشهد بهذه التجارب ونستفيد منها، تركنا الساحة مفتوحة لأشخاص يصنعون «ألقابهم» على حساب الوطن، إلى أن أصبح المحتوى المضلل أكثر انتشارًا وتأثيرًا من بيانات الجهات الرسمية.
>>>
إننا بحاجة ماسّة إلى إعادة الانضباط للمشهد الإعلامى والرقمي. فالأمن الغذائى والدوائى ليسا مجالاً للهو أو للمحتوى الخفيف. والاقتصاد الوطنى ليس مادة للسخرية أو للتشكيك العشوائي. ولم يعد مقبولاً أن تتحرك الأجهزة الرسمية فقط عندما يتحول الأمر إلى أزمة فى الشارع. يجب التحرك المبكر والحاسم: تجريم نشر المعلومات الفنية دون سند علمي، وتفعيل الرقابة، وفرض العقوبات الرادعة، وإلزام المنصات بوقف المحتوى المضلل.
>>>
الخلاصة واضحة: نحن أمام لحظة مفصلية. إما أن نسمح باستمرار العبث، فنفقد ثقة المجتمع فى مؤسساته ومنتجاته، وإما أن تُعيد الدولة هيبتها وتتعامل مع هذه الظواهر بصرامة قانونية وعلمية. لا أحد فوق القانون، ولا أحد يملك الحق فى إرباك المجتمع أو الإضرار بسمعة البلاد لتحقيق مشاهدات أو أرباح.
>>>
إياكم والمزيد من العبث… فالوطن لم يعد يحتمل.









