كثيراً ما نقول «الشيطان يكمن فى التفاصيل»، وهو تعبير كنائى نشأ من شعور الإنسان بأن هناك دائماً شيئاً غامضاً يختبئ فى ثنايا الأمور الصغيرة، تلك التى تبدو فى ظاهرها عادية لكنها قد تحمل ما هو أعمق وأخطر. ولأننا اعتدنا هذا التصور، أصبحنا نغوص فى التفاصيل كلما حاولنا قراءة الأحداث أو فهم مسارات السياسة أو الاقتصاد أو الأزمات التى تتوالى من حولنا، فنبحث فى الجزئيات ونحلل كل رقم وكل ظاهرة صغيرة، معتقدين أن الحقيقة تسكن هناك، وأن مفتاح الفهم لن يأتى إلا من خلال تتبع تلك المنمنمات التى تتشعب إلى غير نهاية. لكن الحقيقة يا عزيزى أن هذا الانهماك المفرط فى التفاصيل كثيراً ما يُبعدنا عن جوهر الفكرة، ويُغرقنا فى بحر من التشعبات التى لا تقود إلا إلى مزيد من التشعبات، حتى نفقد القدرة على رؤية الصورة الكاملة.
>>>
لقد تابعت، بحرص شديد، العديد من الملفات السياسية والاقتصادية فى الإقليم خلال السنوات الأخيرة، وتوغلت عميقاً فى كل تفصيلة قيل إنها مفتاح الفهم، فبحثت فى البيانات، والمواقف، والتصريحات، والمؤشرات، وردود الفعل، وانعكاسات الأحداث على الأرض. ومع ذلك لم أجد الشيطان فى أى من تلك التفاصيل كما نتصور جميعاً. كانت التفاصيل تسير بشكل منطقي: أسباب تخلق نتائج، ونتائج تخلق أسباباً جديدة، وتفاعلات اجتماعية واقتصادية وأمنية تتحرك كقطع الدومينو، بعضها يدفع بالبعض الآخر. نار تشتعل هنا، فتولد نزوحاً هناك، والجوع يقود إلى السرقة، والإهانة تستولد انتقاماً، والاحتقان يولّد انفجاراً، وكل ذلك يبدو طبيعياً وربما متوقعاً فى سياق أزمات ممتدة. ومع كل هذا البحث المضني، اكتشفت أن التفاصيل ليست سوى انعكاسات لشيء أكبر، وأن الحقيقة لا تسكن داخلها كما نُوهِم أنفسنا، بل تسكن فى العنوان الكبير الذى كثيراً ما نهمله لانشغالنا بما هو أصغر.
>>>
ولهذا أعلنتُ، وأعيد التأكيد اليوم، أن الشيطان لم يعد يسكن التفاصيل. لقد غادرها منذ زمن، وتركنا نبحث عنه فى أماكن خاطئة. تركنا نغوص فيما لا يحتاج إلى كل هذا الجهد بينما هو يقف ماثلاً أمامنا فى قلب الفكرة نفسها، فى الأصل، فى الجذر، فى العنوان الكبير. إن أردت أن تراه فعليك أن ترفع رأسك قليلاً، وأن تبتعد خطوة عن المشهد، وأن تتوقف عن ملاحقة الفروع لتفهم الجذور. عليك أن ترى ما وراء الضجيج، وما خلف ما يبدو ظاهراً. ليس فى علامات الترقيم ولا فى الحواشى تختبئ الحقيقة، بل فى الاتجاه العام، فى البوصلة الحقيقية التى تحرك الأحداث ولو لم نلتفت إليها.
>>>
ولعل ما حدث مؤخراً فى الساحة الداخلية خير مثال على ذلك. صدرت أحكام القضاء الإدارى بإبطال الانتخابات فى أكثر من سبع وعشرين دائرة، ليتجاوز عدد الدوائر الملغاة خمساً وأربعين دائرة، بنسبة تقترب من سبعة وستين فى المائة من دوائر المرحلة الأولي. فور صدور الأحكام انشغل كثيرون بالتفاصيل: لماذا أُلغيت هذه الدائرة؟ وماذا حدث فى تلك؟ وكيف وقع الخطأ هنا أو هناك؟ وتوالت التحليلات والتكهنات، وتدافع البعض إلى الشاشات منصبّين أنفسهم محللين وخبراء فى قراءة ما جري، وبدأ العالم الافتراضى يغلى بالتعليقات والانفعالات، وانزلق الكثيرون إلى مسارات جانبية لا نهاية لها.
>>>
لكن يا عزيزي، كل ما جرى ويجرى من تفاصيل ليس هو الموضوع الحقيقي. التفاصيل مهمة للجهة المختصة التى ستتعامل معها فنياً وقانونياً، لكنها ليست جوهر الرسالة التى علينا نحن كمجتمع أن نلتقطها. هناك عنوان كبير يتجاوز كل ذلك، عنوان شديد الوضوح لمن أراد أن يري، وهو أن دولة القانون فى مصر أثبتت أنها حية وقادرة وفاعلة، وأن المؤسسات تعمل ولا تتردد فى تصحيح أى خطأ مهما كان حجمه أو منطلقه. إن إبطال هذا العدد من الدوائر ليس علامة ضعف، بل علامة قوة، لأن الدولة التى تخشى الحقيقة أو تخشى إظهار العوار لا تلجأ إلى القضاء ليقول كلمته، ولا تقبل بأن تهتز النتائج إن كان فى ذلك ما يمس الثقة العامة. أما الدولة التى تعرف قيمتها وتعرف مشروعها وتعرف أن قوتها ليست فى إخفاء الأخطاء بل فى مواجهتها، فهى التى تسمح للمؤسسات بأن تقوم بدورها دون تهيّب أو حسابات ضيقة.
>>>
إن مصر دولة مؤسسات، وهذه المؤسسات عندما تعمل بفاعلية فإنها تؤكد أن مشروع الدولة لم يتوقف، وأنها لا تسمح بعوار يُدفن تحت السجادة، وأن فرقاً شاسعاً يفصل بين دولة تُدار بالعاطفة والانفعال، ودولة تُدار بالمنطق والقانون. نحن لا نحتمل فراغاً تشريعياً، ولا نحتمل أن نهتز أمام لحظة انفعال أو صدمة، ولا ينبغى لنا أن ننجرف وراء المشاعر أو ردود الفعل اللحظية التى قد تعمينا عن حقيقة أكبر وأعمق. الحقيقة هى أن هذا الذى حدث لم يكن تهديداً لاستقرار الدولة، بل كان دليلاً إضافياً على متانة بنيانها.
>>>
ولذلك، يا عزيزي، أرجوك ألا تترك التفاصيل تُضِلك. لا تجعل الضجيج يحجب عنك الرؤية. حكم عقلك، وتذكر أن العنوان الكبير هو ما يصنع المعني، لا ما يتشعب حوله من صخب ولغط. فهناك، فى العنوان الكبير، لا فى التفاصيل، تتجلى حقيقة المشهد، وهناك أيضاً يظهر الشيطان إن أردت أن تبحث عنه، لكنه هذه المرة لم يختبئ ليضللك، بل وقف فى منتصف الطريق ليتحدى قدرة الناس على رؤية ما هو واضح أمام أعينهم.









