مائة وثلاثون عاما مرت، ولاتزال دار الإفتاء المصرية قائمة كنبراس متجذر فى ذاكرة الوطن تضيء طريق الناس بفتوى رصينة وفهم واع، ورؤية تستوعب تحولات الزمن دون أن تتنازل عن أصالة منهجها، ليس الحديث عن تاريخ طويل فحسب، بل عن مؤسسة حملت عبء الدين والوطن معا، فصار وجودها جزءا من الوعى العام، ومكونا أساسيا فى بناء العقل المصرى الحديث.
حين تأسست دار الإفتاء، لم تكن مجرد امتداد تراثى لمؤسسة عريقة، بل مشروع حضارى لفهم الشريعة فى سياقها الإنسانى والوطني، جاءت لتقول إن الفتوى ليست جملة جاهزة ولا حكما منغلقا، بل علم متجدد، ومسئولية دقيقة، تحتاج عقلا حاضرا ونظرا عميقا وإدراكا للتحديات التى يعيشها الناس وهذا ما صنع خصوصيتها عبر العقود، إنها استطاعت أن تحافظ على الجذر دون أن تعيش فى الماضى وأن تقرأ الحاضر دون أن تنساق وراء ضجيجه.
الدار بما تمثله من تاريخ وثقل علمى تاريخى عظيم أثبتت أن الفتوى لا تلقى من بعيد بل تصنع من فهم لنبض المجتمع ومن وعيٍ بمشكلاته ومن حرص على حماية الإنسان من الانجرار إلى الغلو أو الفوضى أو الانغلاق، لذلك بدا صوتها دائما ثابتا متزنا قادرا على تهدئة العقول حين تعصف الفتن وعلى تفكيك الخطابات المتطرفة حين تتكاثر فى مواسم الفوضى الفكرية.
لم تكن دار الإفتاء شاهدا على التاريخ فقط بل فاعل فيه، واجهت الإرهاب وفضحت خطاب التكفير وكسرت محاولات تحويل الدين إلى سلاح صراع ودفعت باتجاه ترسيخ صورة الإسلام فى وجهه الحضارى والرحيم، ومن بين علمائها خرجت مدرسة علمية تعرف كيف تخاطب العالم بلغته وكيف تقدم الإسلام باعتداله وعمقه لا برداء الصراعات وضباب الشك.
ومع التحولات المتسارعة التى فرضها العصر الرقمى لم تتردد الدار فى خوض الميدان الجديد من خلال منصات تواصل ومراكز بحث وبرامج تدريب دولية إضافة إلى رصد للفتاوى الشاذة والمتطرفة، تواصل عالمى يعيد رسم دور الافتاء فى بناء السلم المجتمعي، تحركت بثقة كأنها تقول إن التجديد ليس خروجا عن الأصل بل استكمال لرسالته وإن الدين لا يخاف التطور بل يرشده ويدعمه .
ومع مرور 130 عاما على تأسيسها يتأكد أن دار الافتاء ليست مجرد مؤسسة دينية بل بيت خبرة، وذاكرة وطن ومرجع يحفظ توازن المجتمع، بيت يعرف كيف يمسك العصا من المنتصف لا يميل مع التشدد ولا ينحاز إلى التفلت بل يحمل رسالة الوسطية التى حافظت على هوية هذا البلد جيلا بعد جيل.
إن ما صنعته الدار عبر قرن وثلاثة عقود ليس تاريخا يقرأ فقط بل ميراث حى ينتقل إلى المستقبل، فالعلم الذى توارثه علماؤها لم يكن صدى لماض بعيد بل مشروع نهضة فكرية مستمرة والفتوى التى تجددت على أيديهم بقيت دليلا على أن الشريعة قادرة على مواكبة الحياة دون أن تفقد روحها أو مقصدها .









