واحدة من آفات المجتمع فى عصرنا الحديث أن تقاس أهمية و قيمة الشخص بعدد متابعيه على مواقع التواصل الاجتماعي، وليس بدراسته أو علمه وتخصصه الدقيق وخبرته وتجاربه فى مجاله وموقعه بين أقرانه ممن يقومون بنفس المهام أو يؤدون نفس الخدمة؟!
فى السنوات العشر الأخيرة على سبيل المثال طل علينا عبر الإنترنت وروافده المتعددة عشرات الأشخاص يتحدثون فى السياسة والتاريخ ويُنَظِّرون حول العلاقات الدولية والديمقراطية والعدالة وحرية الرأى ويُوصِّفون -من وجهة نظرهم -الدولة ويُقَيِّمون الحكومات ويعطون دروسًا فيما ينبغى وما لا ينبغى أن يكون -من وجهة نظرهم- ونجح هؤلاء مع الأسف الشديد فى امتلاك حسابات فعالة على مواقع التواصل الاجتماعي، اجتذبت كثيرين ممن اتخذوا من وسائل التواصل الاجتماعى مجرد وسيلة تسلية ليس أكثر، وهذه الفئة من المتلقين ليس لديهم قدرة على الفرز، ومن ثم لا يعنيهم مضامين وقيمة ما يتلقونه، والمحصلة أننا بين عشية وضحاها صار لدينا مهن جديدة لا نعرف عنها شيئاً ولا نعرف فى أى كلية أو جامعة يتم تدريس أصولها، من هذه المهن مثلا «البلوجر» واليوتيوبر» و«الناشط الفيسبوكي»، و«الناشط غير الفيسبوكي»، وصاروا جميعًا نجومًا بمقاييس زمنهم وتبدلت حياتهم من حياة «الضنك» والعوز إلى حياة الترف وحدثت لهم نقلة اجتماعية كبيرة فامتلكوا أحدث السيارات الفارهة وانتقلوا بالعيش من حياة «العشوائيات والأماكن الشعبية إلى مجتمع «الكمبوند» والأحياء الراقية وصار لهم مساعدون ومدورين أعمال مثل نجوم السيما!! كل هذا بسبب عوائد المشاهدات التى تجاوزت مئات الآلاف أو حتى الملايين!!
المصيبة الكبرى أنه رغم إدراك بعض صناع الإعلام التقليدى فى صورته المنضبطة لخطورة هذه الظاهرة ومعرفتهم بحقيقة هؤلاء إلا أنهم لجأوا إليهم وقدموهم للجمهور عبر بوابة الإعلام التقليدى مثل شاشة التليفزيون أو ميكروفون الإذاعة بحجة أن لهم متابعين وأن الجمهور هو الحكم والجمهور هو الزبون و«الزبون دائمًا على حق»، وهذه عبارة ثبت أنها مغلوطة فلم يعد الزبون هو الزبون الذى يشترى القيم ويبحث عن الجيد، ومن ثم لم يعد على حق أبدا.
الشاهد أن هذه الفئة من مرتزقة «السوشيال ميديا» والحقيقة لم أجد وصفا أدق من أنهم مرتزقة-تصوروا أنفسهم أرباب فكر ورأى وأصحاب تأثير حقيقى فى مجتمعاتهم، وهم فى الحقيقة أشبه بــ «قطع عرض» فارغة من الداخل، كتلك التى تعرض في»الفاترينات» لسلعة ما لجذب الزبون، لكنها فى الأخير قطع بلا فائدة لو تم استخدامها للغرض الذى كتب تحتها أو عليها، لأنهم مجرد «موديل» لا يعمل «بلاستيك يعني»، بلا شهادات أو محدودى التعليم والثقافة، فمثلا من يتحدثون فى السياسة ربما لا يعرفون معنى كلمة سياسة وقد تجد من يعلى صوته وينصح الساسة من على مقعده أمام تليفونه المحمول حاصل على «دبلوم تجارة» أو ربما بم يتلق أى تعليم فى الأساس «جاهل» بالمعنى الحرفى للكلمة، لكنه أجاد «الشو» والصوت العالي، فصار مادة للتسللية وأصبح من أصحاب المتابعين الكثر، ناهيك عن خطورة ما قد يحدثه من فوضى معلوماتية أو «بلبلة» أو تحريض أو نشر للشائعات بهدف الربح، وهذا بلا شك يكدر السلم المجتمعي.
وقد تجد من يتحدثون فى التاريخ لا يتذكرون سوى تواريخ ميلادهم فتجدهم يخطئون فى أسماء وصور الزعماء ورموز التاريخ المصرى مثلا، ويعيدون سرد بعض الوقائع بطريقة صادمة بعد أن يضيفوا إليها «توابل» لجذب المشاهدات وليس مهما طبعا إذا تشوه التاريخ.
إنه الوجه البراق لــ «السوشيال ميديا»، لكنه فى الواقع وجه كاذب لا يعكس الحقيقة وينعكس على المجتمع إن آجلاً أو عاجلاً، حيث يتم تدريجيًا «تقزيم» المجتمعات فكريًا وثقافيًا، لصالح فكرة العروض البراقة الكاذبة ويساعد على ذلك تسيد نموذج «الشلل» الخاوية، محدودة الإمكانيات التى تتلاقى وتحافظ على بقائها بطريقة أو بأخري.
فى المقابل هناك علماء ودارسون ومتخصصون حقيقيون على أرض الواقع ليست لديهم حسابات اجتماعية، ومعظمهم ربما لا يملك صفحة على مواقع التواصل الاجتماعى أو يملك ولا ينشر فيها شيئاً، وهؤلاء أجدر بالظهور والاقتداء بهم والاستفادة من علمهم.
أخيرًا: النشر والتواصل من عدمه أسلوب حياة شخصية وليس دليل نجاح أو فشل، وأتصور أن المجتمع سيحتاج فترة ليست بالقليلة لتغيير ثقافته حتى يضع كل شخص فى موقعه الحقيقى بعيدا عن عدد المتابعين الذى يباع ويشتري، و«هوس التريند» وصناعة الزيف التى أتت بها السوشيال ميديا.









