فى زمنٍ تتداخل فيه الأصوات وتتشابك فيه المصالح وتضيع فيه الحدود بين الحق والباطل ، تبدو الحاجة ملحّة إلى إعادة استدعاء بعض القيم التى شكّلت ضمير الأمم وأساس حضاراتها، قيمٍ لم تعد مجرد فضائل شخصية، بل أصبحت مسئولية عامة وموقفًا وطنيًا قبل أن تكون سلوكًا فرديًا. ومن بين هذه القيم تأتى العفّة، تلك الكلمة التى ظُلمت حين حُصرت فى إطارها الحسى الضيق، بينما حقيقتها أبعد ما تكون عن ذلك، لأنها قيمة تنتمى إلى جوهر الإنسان وإلى صميم انتمائه الوطنى والقومي.
العفّة، فى معناها العميق، ليست امتناعًا عن شهوة عابرة، بل هى انضباطٌ فى الفكر قبل الجسد، وسيطرة على المواقف قبل الرغبات، وارتفاع بالنفس فوق الدوافع الصغيرة ، هى ذلك الحاجز الداخلى الذى يمنع الإنسان من الانزلاق إلى الرذائل، سواء كانت رذائل القول أو الفعل أو الاختيار ، وهى ليست مجرد سلوك يُمارس فى الخفاء، بل موقف يُترجم فى العلن، حين يختار الإنسان النزاهة على المكسب، والحق على الضلال، والفضيلة على المصلحة الآنية. ولأن العفّة بهذا الاتساع، فإنها لا تتوقف عند حدود الفرد، بل تمتد إلى الوطن كله، لتصبح فضيلة سياسية وقومية ووطنية بامتياز.
>>>
العفّة الوطنية هى أن يتعامل الإنسان مع وطنه كما يتعامل مع شرفه. هى أن يحفظ هذا الوطن من العبث، وأن يترفّع عن تحويله إلى ساحة للمنافسة الرخيصة أو سوقٍ للمساومات، هى أن يتعفّف عن المتاجرة بقضاياه، وعن تشويه تاريخه، وعن ضرب وحدته، وعن بيع أسراره بثمنٍ بخس. فالوطن لا يطلب من أبنائه أن يكونوا معصومين، لكنه يطلب منهم شيئًا واحدًا: أن يكونوا أعفّاء فى حبهم له، صادقين فى انتمائهم إليه، نبلاء فى مواقفهم تجاهه. العفّة الوطنية تبدو فى الكلمات التى تُقال بصدق، وفى المواقف التى تُتخذ بشجاعة، وفى القرارات التى تُبنى على ضمير حيّ لا على رغبة فى مكسب أو خوف من خسارة.
>>>
أما العفّة السياسية فهى الامتحان الحقيقى للأخلاق. فالمسئول الذى يعرف حدود دوره هو العفيف، والسياسى الذى لا يطعن خصومه بغير حق هو العفيف، وصاحب الرأى الذى لا يستخدم الكذب وقودًا لجمهوره هو العفيف. العفّة السياسية أن تحترم عقل المواطن، وأن تصون وعيه من التضليل، وأن تترفّع عن السجال العبثى الذى يهدم ولا يبني. هى أن يكون صوتك صادقًا، وخطابك نظيفًا، وموقفك ثابتًا، وألا تبيع مبادئك تحت أى ظرف. فالأوطان لا تنهض بالشعارات العالية، بل تنهض بأخلاق عالية، وبعقول تعفّ عن الدناءة، وبساسة لا يضعون أنفسهم قبل الوطن، ولا مصالحهم قبل الحقيقة.
>>>
وعندما تتسع دائرة الانتماء لتشمل الأمة كلها، يصبح مفهوم العفّة القومية ضرورة حضارية. فنحن، حين نتحدث عن الأمة، لا نتحدث عن جغرافيا وحدها، بل عن ذاكرة مشتركة، وتراث مشترك، ووجدان واحد، وقيمٍ صنعت لنا مكانًا فى التاريخ. والعفّة القومية تعنى أن نحترم هذا الإرث، وأن نصونه من التشويه، وأن نُبقى الخطاب القومى فى مستوى المسئولية لا فى مستوى الانفعال. هى أن نتعفّف عن خطاب الكراهية بين أبناء الوطن الواحد، وعن حملات التشويه التى تفتت ما يجب أن يبقى متماسكًا، وأن نترفّع عن الردّ على السفه بالسفه، لأن الأمم لا تبنى بردود الفعل بل بالفعل، ولا تحفظ كرامتها بالصوت المرتفع بل بالموقف المرتفع.
>>>
إن العفّة – فى معناها الشامل – هى القيمة التى يمكن أن تنقذ إنسانًا من ضياعه، ومجتمعًا من فوضاه، ووطنًا من انقسامه. هى الفضيلة التى تجعل كل من يمارسها جزءًا من مشروع أكبر من نفسه، مشروع وطنى وقومى يقوم على تهذيب النفوس لا على تحريضها، وعلى الارتقاء بالوعى لا على تعميته، وعلى بناء الإنسان قبل بناء الحجر. ومن لا يملك عفّة فى موقفه لا يمكن أن يكون صادقًا فى انتمائه، ومن لا يعرف قيمة الشرف الأخلاقى لا يستوعب قيمة الشرف الوطني.
>>>
لقد تغيّر العالم من حولنا، وتقدّمت التكنولوجيا، وتبدّلت طرق التعبير، لكن القيم التى تحفظ الوعى لم تتغير. العفّة ليست مجرد كلمة تُقال، وليست قيمة أخلاقية تُدرّس، وليست موعظة تُلقي، إنها موقف وجودى يحدد طريقة نظرتك لنفسك، ولغيرك، وللوطن الذى تحيا فيه. وعندما تصبح العفّة سلوكًا عامًا، ومطلبًا وطنيًا، وفضيلة قومية، فإن المجتمع يكون قد وضع قدمه على أول طريق النهضة الحقيقية، لأنها النهضة التى تبدأ من الداخل، من الإنسان نفسه، من ضميره، من قدرته على التعفف عن كل ما يشوه صورته وصورة وطنه.
>>>
إن العفّة – بهذا المفهوم – ليست ترفًا أخلاقيًا، ولا رفاهية اجتماعية، بل ضرورة وطنية، ومفتاحًا من مفاتيح استقرار الوطن، ومحورًا من محاور قوة الأمة. إنها البوصلة التى تعيد ترتيب الأولويات، وتُعلى القيم، وتجمع الناس حول ما يستحق أن يبقي، وما يستحق أن يُصان. وإذا كان لكل وطن درع يحميه، فإن العفّة – بكل معانيها – هى درع الأوطان حين تشتد الفتن وتكثر المِحن، لأنها تحفظ القيم، وترفع الوعي، وتبقى الانتماء صافيًا ونظيفًا كما يجب أن يكون.








