كثيرًا ما نتوقف أمام مفهوم القوة، ذلك المفهوم الذى لا يهدأ ولا يستقر، والذى يتبدل شكله ولونه من دولة لأخرى ومن مرحلة لأخرى فالقوة لم تعد مجرد جيوش تتحرك على الأرض أو أساطيل تجوب البحار أو صواريخ تشق السماء، بل أصبحت منظومة متشابكة من عناصر خشنة وناعمة وسائلة، تتوزع بين القدرة العسكرية، والتأثير الثقافي، والوزن السياسى، والحضور الاقتصادى، وشبكات العلاقات التى تصنع للدول مكانة أكبر من حجمها أحيانًا وأصغر منه أحيانًا أخرى لكن كل ذلك يبقى بلا قيمة إذا غابت القدرة على إدارة القوة نفسها فطريقة إدارة القوة لا تقل أهمية عن امتلاكها، بل ربما تكون هى الفارق الحقيقى بين دولة تُحسب حساباتها فى الإقليم والعالم، وأخرى تضيع قوتها بين سوء الإدارة وتشتت الرؤية وتضارب الأولويات.
>>>
من يتأمل سلوك الدول يرى أن هناك أنماطًا متعددة من إدارة القوة هناك القوة الخجولة التى تتوارى خلف الأحداث، كأنها غواصة تفضل أعماق البحر ولا ترغب فى الصعود إلى السطح إلا عند الضرورة القصوى دول تمتلك أدوات هائلة لكنها تخاف من إظهارها أو تتردد فى استثمارها، إما خشية ردود الفعل أو رغبة فى استمرار سياسة الصمت التاريخية الصين نموذج واضح لهذه المدرسة؛ تمتلك قوة اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية هائلة، لكنها لا تزال حريصة على ألا تتحول إلى قوة صدامية أو متغطرسة، مفضلة العمل الهادئ الذى يدفع الآخرين إلى الحيرة أكثر مما يدفعهم إلى الخوف.
>>>
وعلى الجانب الآخر تقف القوة الوقحة؛ ذلك النمط الذى يرى أن الاستعراض بحد ذاته جزء من صناعة الهيبة القوة الوقحة لا تكتفى بامتلاك السلاح بل تحرص على أن يراه الجميع فوق رءوسهم، وأن يسمعوا صوته وأن يتنبهوا لوجوده فى كل لحظة الولايات المتحدة وإسرائيل يمثلان هذا النوع من القوة التى تتعامل مع العالم بمنطق الاستعراض: طائرات تحلّق فى كل مكان، ضغوط سياسية متواصلة، حضور عسكرى معلن، ورسائل لا تتوقف حول من يملك السيطرة على ماذا هذا النوع من القوة يحقق تأثيرًا سريعًا لكنه يخلّف فى المقابل موجات من الكراهية والرفض ويجعل أصحابها دائمًا فى حالة صدام مع محيطهم.
>>>
وبين هذين النقيضين تقف القوة المتزنة، تلك التى تختار لنفسها طريقًا أقرب للحكمة، فلا تخجل من قوتها ولا تتعامل معها كوسيلة للابتزاز قوة تعرف متى تظهر ومتى تختفى، ومتى تتقدم ومتى تتراجع، وكيف توازن بين مصالحها ومصالح الآخرين دون أن تفقد حضورها ولا أن تتورط فى استعراض مجانى لا قيمة له وهنا، ودون مجاملة وطنية، أرى أن مصر تقدم نموذجًا واضحًا لهذا النوع من الاتزان الاستراتيجى فمصر ليست دولة تبحث عن المشاغبة ولا تسعى إلى فرض حضورها بالقوة، لكنها فى الوقت نفسه لا تسمح لأحد بتجاوز حدودها أو تهديد مصالحها، وتعرف كيف تستخدم قوتها فى التوقيت الذى يحقق لها أكبر قدر من المكاسب بأقل قدر من التكلفة.
>>>
لكن هناك نمطًا رابعًا بدأ يظهر بوضوح فى السنوات الأخيرة، أسميه القوة المبعثرة وهى الدولة التى تمتلك كل عناصر القوة تقريبًا: جيشًا كبيرًا، موقعًا استراتيجيًا، أرصدة ثقافية وتاريخية، تأثيرًا ناعمًا يمتد عبر عقود، لكن هذه العناصر لا تتكامل ولا تتناغم ولا تتجمع فى اتجاه واحد كأن الدولة تمتلك صندوقًا مليئًا بالذهب لكنها لا تعرف كيف تستخدمه، أو تمتلك أوركسترا ضخمة لكن كل عازف يعزف منفردًا دون قائد ينسّق بينهم هذا النوع من القوة قد يبدو ضخمًا من بعيد، لكنه عند الاختبار لا يحقق التأثير المتوقع، لأن المشكلة ليست فى امتلاك القوة بل فى فقدان القدرة على تحويلها إلى مشروع واضح المعالم.
>>>
أتحدث هنا عن مصر تحديدًا مصر تمتلك أكبر جيش فى المنطقة، وواحدًا من أكثر الجيوش احترافًا واستعدادًا وتمتلك فى الوقت نفسه قوة ناعمة لا ينافسها فيها أحد: فنًا وأدبًا وموسيقى ودراما وإعلامًا وعقولاً فذة فى كل المجالات من الطب إلى الهندسة ومن الفكر إلى العلوم الاجتماعية لكن هذا المزيج المصرى العريق من القوة الخشنة والناعمة يحتاج إلى تناغم، وليس مجرد وجود متجاور القوة لكى تتحول إلى نفوذ مستدام تحتاج ما أسميه «خلطة القوة الشاملة»؛ تلك التى تدمج
بين ما هو عسكرى وما هو ثقافى، بين السياسة والاقتصاد، وبين الدبلوماسية الصامتة والتأثير الواسع على الجمهور المستهدف أينما كان.
>>>
القوة الناعمة المصرية على وجه الخصوص تبدو لى – وقد أكون مخطئًا – مبعثرة ليس لأنها ضعيفة، بل لأنها غير قادرة على العمل ككتلة واحدة لدينا أسماء كبيرة ملهمة ومبدعة فى كل مجالات المعرفة والفن، لكننا لا نمتلك آلية حقيقية لتقديمهم للعالم ولا حتى للاستفادة منهم داخليًا هناك طاقة ناعمة مهولة لكنها بلا إدارة، بلا تسويق، بلا إستراتيجية واضحة ما نحتاجه ليس مزيدًا من الكلام البراق ولا طلاءات «الينبغيات» التى تحوّل كل شيء إلى حملات دعائية عابرة، بل مشروع جديد اسمه التأثير؛ التأثير الحقيقى الذى يمكن قياسه ووزنه ومقارنته، لا البروباجندا التى تكتفى بالضجيج دون أثر.
>>>
نحن فى حاجة إلى «مسطرة تأثير» تقيس مدى قدرة الفن المصرى والفكر المصرى والهوية المصرية على الوصول إلى الجمهور المستهدف، سواء كان دولة أو مجتمعًا أو منطقة جغرافية نحتاج إلى صناعة «البراند الثقافى المصري» من جديد، وإلى إعادة الاعتبار لأصحاب العقول الكبيرة الذين أهملت الدولة الاستفادة منهم، ربما عن تجاهل وربما عن سوء تقدير وربما عن غياب رؤية لكن الأكيد أن إهدار هذه الطاقة الناعمة لم يعد مقبولاً فى عالم لا يعترف إلا بمن يعرف كيف يستثمر قوته، لا بمن يكتفى بالتباهى بأنه يمتلكها.









