هناك لحظة فارقة فى حياة الأمم، لا تُقاس بمقياس الزمن العا دي، بل بمقياس الضمير الجمعي، لحظة يتساقط فيها حاجز المسئولية بين الفرد ومصير مجتمعه، فينكمش العالم حتى يصبح حدود الذات فقط. إنه «وباء اللامبالاة».. هذا المرض الغريب الذى لاترفض فيه الأجساد المضادة مهاجمة الجسد نفسه فحسب، بل ترفض حتى الاعتراف بأن هناك جسداً أصلاً.
اللامبالاة.. ليست مجرد عدم اكتراث، بل استقالة جماعية من العضوية فى المجتمع، لاتُعلن، لكنك ترى آثارها فى العيون التى تتجنب النظر، وفى الأيدى التى ترفض المشاركة، وفى القلوب التى أُغلقت من الداخل.
ودائما إذا ما نظرت إلى المجتمعات ككائن حي، يمتلك جهاز مناعة، هذا الجهاز ليس مكوناً من مؤسسات رسمية فحسب، بل هو، فى جوهره، مكون من إرادة الأفراد فى الدفاع عن كيانهم المشترك، فإن اللامبالاة هى «فشل مناعي» اجتماعي.
فى الخمسينيات والستينيات، كان المواطن يشعر بأنه «حارس» على مشروع قومي، كان خطأ الموظف فى مكتب البريد يشعرنا جميعاً بالإهانة، وكان إنجاز مصنع جديد يشعرنا جميعاً بالفخر، اليوم.. لم يعد المواطن حارساً، بل أصبح «رقيباً» سلبياً، يراقب من شباك بيته، وربما يسجل عليه «لايك» أو «شير» على منصات التواصل، ثم يمضى فى طريقه.. وهنا تكمن الكارثة، لقد تحولنا من «مجتمع المسئولية» إلى «مجتمع المتفرجين»، كما قال المفكر الفرنسى جى ديبور فى «مجتمع الاستعراض»: أصبحت الحياة مجرد مشهد نستهلكه من بعيد، دون أن نكون مشاركين فاعلين فيه، الفرد لم يعد يبحث عن دوره فى صناعة التاريخ، بل يبحث عن أفضل مقعد لمشاهدته وهو منفصل عنه.
والأرقام هنا تتحدث لغة أقسى من كل الخطب والمقالات:
> تآكل رأس المال الاجتماعي: وفقاً لتقرير البنك الدولى حول «رأس المال الاجتماعى فى المنطقة العربية»، فإن مؤشرات الثقة بين الأفراد، والمشاركة فى الجمعيات الأهلية، والعمل التطوعي، تشهد انحداراً حاداً، نحن أمام «فقر علائقي» يعمق الفقر المادي.
> تقرير التنمية البشرية: يشير أحدث تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائى إلى أن واحداً من أكبر التحديات التى تواجه المنطقة هى «أزمة المشاركة المدنية»، حيث يشعر أكثر من 60 ٪ من الشباب أن صوتهم «لا قيمة له» ولايمكنه إحداث تغيير حقيقي، هذا ليس إحصاءً، بل تشخيص لمرض العزلة الاجتماعية.
وهنا أتذكر مقولة خالدة لـ أندريه مالرو، وزير الثقافة الفرنسى الأسبق، حيث قال: «الثقافة هى ما تبقى للإنسان عندما ينسى كل شيء»، واليوم يمكن الإضافة إلى تلك المقولة جملة جديدة: «المواطنة هى ما يفعله الإنسان عندما يتذكر أنه جزء من كل»، لأننا الآن خسرنا معنى «الكل» هذا، فى زمن التحرر من الاستعمار، كان «الكل» واضحاً: هو الوطن.. اليوم، فى زمن العولمة والفضاء الافتراضي، تشظى «الكل» إلى آلاف القطع «العائلة المحدودة، أو الطائفة، أو الطبقة الاجتماعية، أو حتى «الفقاعة» الافتراضية على فيسبوك وتيك توك» لم يعد هناك مشروع جامع يذيب الفوارق ويخلق هذا «الكل» الذى ننتمى إليه جميعاً.
اللامبالاة ليست بريئة، إنها جريمة صامتة يرتكبها الجميع بحق الجميع، إنها السم الذى يقتل الأمم ليس بضربة سيف، بل بلفافة من الغبار، تغطى بها كل شىء حتى تختفى المعالم وتموت الإرادة.









