هل يدرك كل من حمل قلماً، أو فتح نافذة فى فضاء الإعلام، أو ظهر على شاشة تبث إلى ملايين العيون، أن للكلمة سلطانًا قد يغيّر الموازين ويبدّل مصائر الشعوب؟ وهل وعى أصحاب المنابر اليوم حجم ما تصنعه كلماتهم فى الوعى العام، وما تتركه فى النفوس من أثر لا يزول؟ إن اللسان لم يعد أداة تعبير فحسب، بل صار فى هذا العصر سلاحًا يمضى أسرع من الرصاص، ويصيب أعمق من الجراح.. وكلما كان وصول الكلمة أسرع صار خطرها أشد وأكبر!!
الكلمة ــ فى حقيقتها ــ نور يَهدى من اهتدي، وجرح يؤذى من غفل أو تجبّر. ترفع صاحبها إن صدقت وخلصت، وتهوى به إن كذبت وزيّفت. وليس عجيبًا أن يجعل القرآن للكلمة الطيبة مثالاً باهرًا حين قال سبحانه: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَاءِ»؛ لأنها كلمة تُثمر، وتُعمّر، وتبقي. ثم أتبعها بمصير الكلمة السيئة: «وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ».
فأية صورة أبلغ من ذلك فى بيان خطورة ما ينطق به اللسان؟
ولعظيم أثر الكلمة، أمر الله موسى وهارون أن يخاطبا فرعون بقوله تعالي: «فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَي».
فإذا كان اللين مأمورًا به فى مخاطبة طاغية بحجم فرعون، فكم ينبغى أن نسلكه فى حياتنا اليومية، وفى نقاشاتنا العامة، وفى منصاتنا الرقمية؟ كيف انقلبت القلوب حتى صار البعض يرمى كلماته كالحجارة، لا يبالى بما تكسر أو تجرح؟
لقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت.»
وهى قاعدة لو التزم بها الناس اليوم، لأنقذوا أنفسهم ومجتمعاتهم من أزمات لا تنتهي، وخلافات ومشاكل لا حصر لها.. فعلاقة الزواج تتوقف على كلمة، والعهود والمواثيق مبتداها كلمة، وشهاد الزور كلمة، والدخول فى دين الله بكلمة يستقر معناها فى الفؤاد؟
وفى عالم تتدفق فيه المعلومات، وتختلط فيه الحقائق بالأوهام، يصبح السؤال مُلحًّا:
أليست معظم مشكلاتنا الاجتماعية تبدأ من كلمة؟
من شائعة تنتشر قبل التثبت؟
من قولٍ يُلقى فى لحظة غضب؟
من قيلٍ وقالٍ يجرّ خصومة، ثم يفتح باب فتنة؟
وقد حذّر الله من التسرع فقال:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا».
فكم من البيوت خُربت، وكم من العلاقات انقطعت، وكم من السمعة دُمّرت بسبب كلمة أطلقت دون علم أو مسئولية؟
وفى توصيف بليغ لا يزال صالحًا لكل زمان، قال عبدالرحمن الشرقاوي:
«الكلمة نور… وبعض الكلمات قبور».
«الكلمة مسئولية… إن الكلمة عهد».
ثم قال فى صيحة تحذير لا تخطئها الأذن:
«هل تعرف ما معنى الكلمة؟
مفتاح الجنة فى كلمة، ودخول النار على كلمة».
كأنما يذكّرنا بأن المعارك الكبرى قد تبدأ بحرف، وبأن السلام قد يولد من كلمة طيبة.
أما الإمام الشافعي، فقد أدرك مبكرًا خطورة اللسان فقال:
«احفظ لسانك أيها الإنسانُ
لا يلدغنك إنه ثعبانُ.»
وكان ينصح:
«إذا ما كنتَ ذا عقلٍ وعلمٍ
فأظهر منهما ما أنتَ ذاكرُ.»
لأن اللسان مرآة القلب، فإذا صلح القلب تفوّه بالخير، وإذا فسد نطق بما يفسد المجتمع.
ولم يبتعد عبد الله بن معاوية عن هذا المعنى حين قال:
لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادُهُ … فلم يَبقَ إلا صورةُ اللحمِ والدمِ.
وهو بيت يُجمل حقيقة الإنسان: قلبٌ يقول، ولسانٌ يترجم، وما الباقى إلا جسد لا قيمة له بلا خلق.
وما أشد حاجتنا اليوم إلى وقفة صدق مع الكلمة فى زمن صارت فيه منصات التواصل ساحات اشتباك، وصار القيل والقال غذاء يوميًا، حتى كدنا نعتاد زخرف القول ولو كان فارغًا، ونثق فى الشائعات ولو كانت مضلّلة. فكيف ننهض بمجتمع لا يستطيع أن يمسك لسانه؟ وكيف نبنى وعيًا عامًا إذا كان أساسه كلمات تتناسل بلا رقيب؟
لقد نبّه الرئيس السيسى مرارًا إلى خطورة الكلمة فى تشكيل منظومة القيم وحماية وعى المجتمع، وهو تنبيه يعيدنا إلى أصل المسألة: الوعى يبدأ بكلمة، وينهار بكلمة.
إن مسئولية القلم ليست باب رزق، بل أمانة كبري. وقد أقسم الله بالقلم وما يسطّرون، ليقيم الحجة على كل من يكتب:
«ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ».
ومن يدرك أثر الكلمة، يدرك أنها قد تبنى وطنًا أو تهدمه، تهدئ النفوس أو تشعلها، تنشر الرحمة أو تفتح أبواب الفتنة.
لذلك، تبقى الكلمة مسئولية، ومن لم يُحسن حملها كان ضررها أعمق من صمت طويل.









