حين جلس الكاهن الأعظم لبنى إسرائيل تحت شجرة الخروب، لم يكن المشهد مجرد حكاية من التراث أو إحدى أساطير القدماء، بل كان تجسيدًا لطبيعة ذهنية طالما أحاطت نفسها بالغموض وادعت امتلاك الحكمة المطلقة. فى تلك الحكاية القديمة، زُعم أن الكاهن يرى ما لا يراه الناس، ويحكم بما ينطق به الوحي، حتى وإن بدا كلامه مخالفًا للمنطق أو متجاوزًا لحدود الواقع. لكن المدهش أن أتباعه، رغم علمهم بسطحية ذلك الكلام، كانوا يرددونه ويقدسونه، كأنهم أسرى لوهم كبير لا يستطيعون الفكاك منه.
>>>
شجرة الخروب – فى تلك الرواية – لم تكن مجرد نبات، بل رمزًا لسلطة ترتكز على الخرافة وتستمد قوتها من إقناع الناس بما لايُعقل. فقد كان الكاهن يزعم أن الشجرة تهبط وتعلو تبعًا لصدق كلامه، وأنها مباركة تأكل منها الأفعى وتصفو بها الأرواح. ومع كل جملة يلفظها، كان أتباعه يزدادون تمسكًا به، حتى لو قال ما يناقض العقل والمنطق. وهكذا يتحول الوهم إلى حقيقة، والخرافة إلى شرع، ويغدو الناس أسرى لسلطة لا تُسأل ولا تُناقش.
>>>
هذه الذهنية تتقاطع كثيرًا مع ما نواجهه اليوم فى صراعنا مع الكيان الصهيوني. فليس أمامنا خصم عادي، بل جماعة تُحركها نصوص تلمودية مليئة بالالتباس، وتفسيرات دينية تُستخدم لتبرير كل شكل من أشكال العدوان، من انتزاع الأرض إلى تبرير القتل والتهجير. إنهم يقدمون أنفسهم كأصحاب «الوعد الإلهي»، ويستندون إلى سرديات مختلقة تجعل من الآخر مجرد تابع لا يملك حق الرفض أو المقاومة.
>>>
وإذا تأملنا تفاصيل الشخصية الصهيونية- كما تُظهرها النصوص- سنجد أنها تقوم على تقديس الذات وتحقير الآخر. ففى أدبياتهم، يعلو اليهودى فوق غيره، ويحق له أن يمتلك الأرض وما عليها بوصفه «شعب الله المختار» إنها فكرة تتكرر عبر القرون، وتحولت من معتقد دينى إلى قاعدة سياسية تُدار بها الدول وتتخذ وفقها القرارات الكبري.
>>>
التوراة والتلمود وعهدهم القديم ليست نصوصًا خاملة، بل أدوات يُعاد استخدامها وصياغتها كلما احتاجت المؤسسة الدينية والسياسية إلى تبرير جديد. وفى كل مرة، يتم دمج الأسطورة بالواقع، حتى يصبح التاريخ متخيلاً، والجغرافيا مقدسة، والواقع مجرد امتداد لنص قديم تمت إعادة إنتاجه.
>>>
حكاية شجرة الخروب ترتبط كذلك بروايات أخرى فى تراثهم، مثل قصة يوشع وموسى عليه السلام، التى أعيد تفسيرها لخدمة فكرة الاصطفاء. فعوضًا عن تصويرها كقصة نبوية تحمل قيَمًا إنسانية، جرى توظيفها لإثبات الحق المطلق فى السيطرة، واستُخدمت أحداثها لتبرير ما يمارسونه من عنف. ورغم أن هذه النصوص مليئة بالتناقضات، فإنهم يحولونها إلى مرجع لا يقبل النقد، ويطالبون العالم بالاعتراف بها كحقيقة ثابتة.
>>>
اليوم، ونحن فى قلب الصراع مع هذا الكيان، يجب أن ندرك أننا لا نواجه جيشًا فقط، ولا سياسة فقط، بل نواجه عقيدة راسخة بُنيت على أساطير وخرافات، وعلى قراءة منحرفة للدين والتاريخ. إنهم يتعاملون مع الأرض باعتبارها إرثًا مقدسًا لا يخضع للنقاش، ويتصرفون مع الشعوب من حولهم باعتبارهم أدنى مرتبة وأقل قيمة. وهذا ما يجعل المفاوضة معهم معقدة، والسلام معهم هشًا، والتعايش معهم مستحيلاً.
>>>
إن فهم العقلية الصهيونية ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة إستراتيجية. فخصمك حين تعرف جذور فكره، تفهم دوافعه، وتدرك ما يمكن أن يتراجع عنه وما لا يتراجع. والكيان الصهيوني، عبر عقيدته الدينية والسياسية، لا يرى نفسه ملزَمًا بأى وعد أو اتفاق، لأنه يعتبر نفسه فوق المنطق وفوق البشرية، تمامًا كما اعتقد ذلك الكاهن الذى جلس تحت شجرة الخروب.
>>>
هذه الأزمة التى يعيشها الكيان اليوم، رغم قوته العسكرية ودعمه الدولي، تكشف هشاشة هذا البناء الوهمي. فالوهم لا يمكن أن يصمد أمام الشعوب التى تعرف حقها وتدافع عن وجودها. وحين تتعرى الأساطير أمام الواقع، تسقط شجرة الخروب التى طالما تباهوا بأنها لا تهتز.
>>>
وفى النهاية، قد تكون الحكاية القديمة مجرد أسطورة، لكنها تكشف الكثير عن طبيعة المشروع الصهيوني: مشروعٌ بُنى على الوهم، ويستمر بالخرافة، ويلجأ دائمًا إلى قوة السرد الدينى ليبرر قبح أفعاله. ومع كل أزمة يتعرض لها، تتردد داخل بنيته نفس الأسئلة القديمة: هل ما نؤمن به حقيقة؟ أم مجرد شجرة خروب هابطة لم ينتبهوا حين سقطت؟









