تستعد مصر لمرحلة اقتصادية جديدة مع إطلاق «السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية»، التى ترتكز على بناء اقتصاد إنتاجى مستدام، قائم على تعظيم الاستثمارات المحلية والأجنبية.
وثيقة «استراتيجية الوطنية تستهدف رفع صافى التدفقات الاستثمارية إلى 42 مليار دولار فى عام 2025/2026، ثم 55 مليار دولار بحلول 2028/2029، وصولاً إلى 60 مليار دولار فى عام 2030، عبر خريطة استثمارية جديدة تُعيد تشكيل أولويات القطاعات المستهدفة.
البنك المركزى المصرى كشف فى أحدث تقاريره ارتفاع صافى الاستثمار الأجنبى المباشر إلى 12.2 مليار دولار خلال العام المالى 2024/2025 «باستبعاد صفقة رأس الحكمة»، مقابل 46.1مليار دولار خلال العام المالى السابق 2023/2024.
ومن هنا برز السؤال الجوهرى كيف تتحول هذه الاستراتيجية الطموحة إلى واقع ملموس؟ طرحته «الجمهورية» على نخبة من الخبراء الاقتصاديين.
القطاعات الإنتاجية
الدكتور خالد الشافعي، رئيس مركز العاصمة للدراسات الاقتصادية يرى أن التحدى الكبير لتحقيق هذا الهدف لا يكمن فى حجم التدفقات الاستثمارية، بل فى توجيهها نحو القطاعات الإنتاجية لتوطين التصنيع المحلى وتقليل الاعتماد على الواردات وتحقيق الاكتفاء الذاتى من السلع الأساسية.
وأشار إلى أن الصفقة القطرية الأخيرة فى علم الروم والتى يرى فيها نموذج الاستثمار النوعى طويل الأجل الذى ينعكس على التنمية العمرانية والسياحية بمنطقة الساحل الشمالي.
أوضح أن الاتفاقية تهدف إلى إقامة مشروع عمرانى تنموى مُتكامل وفقًا للمستويات العالمية؛ ليكون منطقة جذب إقليمية لمختلف الأنشطة الخدمية، والسياحية، والسكنية والتجارية، لتصبح «علم الروم» منطقة ساحلية سياحية واستثمارية متكاملة على مستوى عالميّ.
أشار الشافعى إلى أن تعميم هذا النموذج من الاستثمارات النوعية فى قطاعات الإنتاج والخدمات والصناعة والزراعة سيعزز قدرة الاقتصاد على خلق فرص عمل وزيادة القيمة المضافة، داعيًا إلى منح هذه القطاعات حوافز مماثلة لتلك التى يحصل عليها قطاع العقارات.
كما لفت إلى أن السوق المصرية مرشحة لاستقبال تدفقات استثمارية جديدة فى عدد من القطاعات الاستراتيجية، مثال خدمات التعهيد والاتصالات، خاصة بعد توقيع 55 اتفاقية جديدة بين ممثلى شركات العالمية فى مصر ووزارة الاتصالات التى ستضيف 75 ألف فرصة عمل إلى السوق المصرية خلال ثلاث سنوات.
أكد الشافعى أن الاستقرار السياسى والانفتاح على الشراكات الدولية وفتح قطاعات جديدة أمام الاستثمار، شكلت جميعها عوامل داعمة للتدفقات الاستثمارية نحو السوق المصرية، خصوصًا فى مجالات الطاقة المتجددة، والصناعات التحويلية، والبنية التحتية، والعقارات. وان ما تحتاجه مصر اليوم هو مزيد من الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة طويلة الأجل.
الدكتورة نيفين عبدالخالق، عضو مجلس إدارة جمعية رجال الأعمال المصريين، تؤكد على أولوية مشروعات الاقتصاد الأخضر فى الاستثمارات الأجنبية المباشرة مع تمكين القطاع الخاص من التكنولوجيا والتمويل المستدام، ومنح حوافز وضمان العدالة للكيانات غير الرسمية، كما تدعو لإنشاء صندوق عربى للتنمية المستدامة بمشاركة الشركات، يعمل دون تحميل الدولة أعباء تمويلية إضافية.
تشير «نيفين» إلى أن الاستراتيجية الوطنية للتنمية الاقتصادية تتسق مع رؤية مجتمع الأعمال فى تعزيز دور القطاع الخاص وتشجيع الابتكار وربط التعليم بسوق العمل، مشددة على أهمية تطوير التعليم الفنى والتدريب المهنى عبر مدارس التكنولوجيا التطبيقية بدعم الدولة.
مؤكدة على المستهدف الذى وضعته الدولة فى استراتيجية التنمية بالوصول بالتدفقات الأجنبية المباشرة إلى 60 مليار دولار بحلول 2030 وهو رقم يسهل تحقيقه، فمصر قادرة على تجاوز هذا الرقم بعدما بلغت التدفقات 46.6 مليار دولار العام الماضي، مستفيدة من الاستقرار السياسى والاقتصادى والبنية التحتية الحديثة.
كما أشارت إلى أن التدفقات الأجنبية تدعم استقرار العملة والأسعار، ما يقلّل الضغوط على الجنيه ويعزز ثقة الأسواق المحلية والدولية، مشيرة إلى أن المستثمر الأجنبى يولى اهتمامًا كبيرًا بالبيئة الإدارية والمستثمر المحلي.
التعاون الدولى يلعب دوراً كبيراً فى جذب الاستثمارات وهذا ما تؤكد عليه د. نيفين خاصة وان هناك اهتمام كبير بمصر من مستثمرى دول عديدة مثل المستثمر السنغافورى الذى يهتم جداً بقطاعات محددة منها الموانئ والطاقة المتجددة.
المشكلة الأخطر كما تعود عضو جمعية رجال الأعمال هى البيروقراطية الإدارية التى تمثل تحديًا أمام المستثمرين.
من جانبه، أوضح الدكتور إبراهيم مصطفي، الخبير الاقتصادي، أن المعدلات العالمية للاستثمار الأجنبى المباشر تتجاوز 18 ٪ من الناتج المحلي، بينما المستهدف المصرى البالغ 60 مليار دولار خلال خمس سنوات يعادل نحو 12 ملياراً سنويًا يمثل نحو 5.1 ٪ من الناتج المحلى الإجمالى بالأسعار الجارية، وهو رقم متواضع مقارنة بالإمكانات المتاحة التى تمتلكها مصر مضيفاً أن هناك استثمارات استثنائية مثل مشروع «رأس الحكمة» وصفقة «علم الروم»، التى اضافت وحدها 45 مليار دولار فى عام واحد لذلك يجب التوسع فى عمليات جذب هذه النوعية من الاستثمار.
وأشار إلى أن نجاح استراتيجية تعزيز الاستثمار الأجنبى المباشر يتطلب استقطاب متوسط 12مليار دولار سنويًا، مع استثمارات إضافية فى الإنتاج والخدمات والزراعة، لتجاوز نسبة 18 ٪ من الناتج المحلي.
وأكد مصطفى على أهمية استقرار السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية لمدة خمس سنوات على الأقل، مع تبسيط وميكنة الإجراءات «وان تاتش» One Touch، مشيرًا إلى أن الحوافز الاستثمارية تأتى بعد الاستقرار والميكنة، مقدمًا مثال «الرخصة الذهبية» التى لابد أن تمنح امتيازات إضافية للمستثمرين الاستراتيجيين وليست بديلًا عن الإجراءات التقليدية.
ويعدد الخبير الاقتصادى المزايا التنافسية لمصر، والتى تجعل منها سوقاً متميزاً للاستثمار منها انخفاض تكلفة العمالة، وتوافر المناطق الصناعية، وأسعار الأراضى والخدمات التنافسية، والسوق المحلى الضخم، والاتفاقيات التجارية مع أسواق المنطقة وأوروبا وأمريكا، التى تمثل أهم عوامل جذب الشركات الأجنبية للسوق المصرى ومنها الشركات التركية والصينية التى تتجه لمصر بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج فى بلدانها.
أكد أن استمرار الدعم من القيادة السياسية من خلال دعوة الرئيس عبدالفتاح السيسى لتشجيع الاستثمار وتحسين بيئته وتمكين القطاع الخاص المصرى والعربى والأجنبى من لعب دور محورى فى دفع النمو والتنمية، مستندًا إلى مشاريع البنية التحتية الكبرى التى غيّرت وجه الاقتصاد المصري.
أوضح أن السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية تعبّر عن إرادة سياسية لتحويل مصر إلى مركز استثمارى إقليمي، هذا ما اكده الخبير المصرفى محمد علاء الدين أحمد، حيث أشار إلى أن نجاحها يتطلب إصلاحات هيكلية أهم ركائزها استقرار مناخ الاستثمار واستقلالية البنك المركزى والاستقرار النقدى ، بما يعزز الثقة فى السوق المحلية مشددا على أن القطاع المصرفى يظل حجر الزاوية لإنجاح إستراتيجية التنمية بضمان استقرار العوائد وتوفير النقد الأجنبى بانتظام لدعم الاستثمارات الأجنبية الكبري.
يرى علاء الدين أن تحول الدولة إلى منظم وميسر للاستثمارات، يعزز ثقة المستثمرين الأجانب فى استقرار البيئة الاستثمارية. وقد تجسد ذلك فى مشروع رأس الحكمة، مؤكداً استهدافه تحويل المنطقة إلى مركز إنتاجى متكامل قائم على الإنتاجية وليس مجرد شراء أصول.
التزام المستثمر بالمساهمة فى التنمية
أضاف أن نجاح السياسة الاستثمارية يعتمد على ربط الحوافز بالأداء الفعلى للمستثمرين، بالمساهمة فى التنمية الوطنية، من خلال خلق فرص عمل، زيادة المكون المحلي، وتشجيع التصدير. ويظهر هذا بوضوح فى مشروع علم الروم، الذى اعتمد نموذج الشراكة الاستثمارية بتخصيص قطعة أرض للشركة القطرية «لتنفيذ مشروع تطوير وتنمية قطعة من الأرض تبلغ مساحتها 4900.99 فدان فى نطاق منطقة «سملا وعلم الروم» بالساحل الشمالى الغربيّ، بمحافظة مطروح»، فى مقابل يضمن للدولة الحصول على 15 ٪ من الأرباح بعد استرداد التكلفة، ويتم الحصول فى مقابل ذلك على ثمن نقدى بقيمة 3.5 مليار دولار، وسيتم تحويله من المستثمر قبل نهاية العام الجاري، وجزء آخر مقابل عينى بمساحة بنائية من المكون السكنى بالمشروع تتمثل فى وحدات سكنية، ويُستهدف أن يتحقق من بيعها بعد استلامها قيمة تُقدر بـ 1.8 مليار دولار، فضلاً عن حصة المشاركة فى الأرباح تُخصص لهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، وتتضمن الصفقة التجارية «فضلاً عن الثمن النقدي» ـ استحقاق الهيئة ما يُعادل نسبة 15 ٪ من صافى أرباح المشروع، بما يعكس تحول الدولة نحو شراكات استثمارية مستدامة وطويلة الأجل.
أشار الخبير المصرفى أن تحويل الإجراءات البيروقراطية إلى مسارات رقمية متكاملة تعزز جاذبية البيئة الاستثمارية، وقد تجلى ذلك فى مشروع رأس شقير، الذى استخدمت فيه الحكومة آليات تمويل سيادية مبتكرة عبر الصكوك، بهدف جمع تمويل يصل إلى تريليون جنيه مصري، بما يساهم فى خفض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلى الإجمالى بنحو 5 نقاط مئوية خلال عامين، مع إصدار دولى للصكوك بقيمة 1.5 مليار دولار، وإصدار محلى بقيمة 3 مليارات جنيه، ما يتيح تمويل المشاريع التنموية دون الاعتماد على الديون التقليدية.
من جانبها ترى دكتورة نهلة أبوالعز، رئيس قسم الاقتصاد بكلية الاقتصاد والإدارة – جامعة 6أكتوبر أن المرحلة المقبلة فرصة حقيقية لإعادة بناء ثقة مع المستثمرين المحليين والأجانب، بتطبيق استراتيجيات واضحة وشفافة تضمن استقرار السياسات الاقتصادية وتعزيز دور الدولة كمنظم ومحفز للنشاط الاقتصادي، مما يمكّن القطاع الخاص من قيادة النمو واستقطاب استثمارات طويلة الأجل ذات عائد مستمر، من ثم يجب تأسيس «عقد ثقة» يضمن حماية الاستثمار، حرية نقل الأرباح، استقلالية التحكيم والقضاء المتخصص، إلى جانب عقود طويلة الأجل، حوافز أداء، ومشاركة الدولة فى مخاطر المشاريع الكبري.
شددت «نهلة» على أهمية ربط الاستثمار الأجنبى بالإنتاج المحلى وتوطين الصناعات الاستراتيجية كالغذاء والأدوية والبتروكيماويات، ودعم الصناعات عالية القيمة مثل الأدوية والإلكترونيات والبرمجيات، وتشجيع تصدير المنتجات المصنعة بدل الخام، وتوجيه الاستثمارات إلى القطاعات القادرة على التصدير والاندماج فى سلاسل القيمة العالمية مع مراعاة التحول الأخضر والاستدامة، لتحويل مصر إلى مركز إقليمى جاذب للاستثمارات وتعزيز تنافسيتها الدولية.
كما أكدت أيضاً على ضرورة استمرار التسويق الدولى الجاد لجذب استثمارات من أوروبا، الخليج، آسيا، وفتح أسواق جديدة فى أمريكا اللاتينية وشرق آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء.
ويشير علاء الدين الخبير الاقتصادى إلى أن المشاريع الثلاثة، رأس الحكمة، رأس شقير، وعلم الروم تثبت أن السردية الوطنية ليست مجرد خطة نظرية، بل خارطة طريق قابلة للتطبيق، تعكس دمج الانسحاب الحكومى من المنافسة، ربط الحوافز بالأداء الفعلي، والتحول الرقمى للإجراءات البيروقراطية، ما يجعل مصر نموذجاً عربياً فى تحويل الرؤية الاقتصادية الطموحة إلى واقع ملموس يعزز الإنتاجية، التمويل الذكي، والتكامل الإقليمي.









