ما جرى داخل إحدى المدارس الدولية بمنطقة العبور ليس مجرد «واقعة فردية» يمكن التعامل معها بمنطق امتصاص الغضب، بل هو جريمة مكتملة الأركان في حق أطفال لا تتجاوز أعمارهم خمس سنوات، وفي حق المجتمع كله. النيابة العامة تحقق في اتهامات موجهة إلى أربعة من عمال المدرسة بهتك عرض عدد من الأطفال داخل المدرسة، وأمرت بحبسهم ٤ أيام على ذمة التحقيق، مع عرض الضحايا على الطب الشرعي لتوثيق الانتهاكات الجسدية والنفسية التي تعرضوا لها.
هذه الجريمة لا يمكن قراءتها بمعزل عن سؤال جوهري: كيف يصل عامل – أو أكثر – إلى هذا القدر من النفوذ داخل مدرسة، بحيث يستدرج أطفالًا في عمر الزهور إلى أماكن بعيدة عن الرقابة والكاميرات، وعلى مدى فترة زمنية، من دون أن يلتقط أحد من الإدارة أو الإشراف أو حتى أولياء الأمور أي إشارة خطر حقيقية؟ هنا تحديدًا يبدأ دور وزارة التربية والتعليم، لا عند حدود التعاطف، بل عند حدود المساءلة وإعادة بناء منظومة الرقابة.
أول ما تنتظره الأسر من الدولة اليوم هو ضمان أن يأخذ القانون مجراه حتى نهايته، وأن يواجه المتهمون – إذا ثبتت إدانتهم – أقصى عقوبات هتك العرض ضد الأطفال، خاصة أن القانون المصري يشدد العقوبة عندما يكون الجاني من العاملين بالمؤسسة التعليمية. لكن العدالة الجنائية وحدها، مهما كانت صارمة، لن تكفي إذا لم تُترجم هذه المأساة إلى تغيير في طريقة إدارة المدارس الخاصة والدولية، وفي منظومة الترخيص والرقابة التي تشرف عليها الوزارة.
وزارة التعليم مطالبة أولًا بإعلان نتائج تحقيق إداري مستقل وموسع، لا يكتفي بسؤال: «من اعتدى؟»، بل يمتد إلى: «من تقاعس؟ ومن سمح؟ ومن تجاهل الشكاوى الأولى؟». الإهمال الذي يسمح لمثل هذه الجريمة بأن تتكرر على مدى فترة زمنية هو شراكة غير مباشرة في الجريمة، ويجب أن يتحمل المسؤولية فيه كل من ثبت تقصيره: إدارة المدرسة، المشرفون، وربما مسؤولو الإدارة التعليمية إذا ثبت أنهم تلقوا شكاوى سابقة ولم يتحركوا بالسرعة والحسم اللازمين.
الخطوة التالية هي إعادة النظر جذريًا في معايير اختيار وتعيين العمال والموظفين في المدارس، خاصة رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية. لا يكفي “صحيفة الحالة الجنائية” كإجراء شكلي، بل يجب أن تصبح هناك منظومة فحص نفسي وسلوكي، وتدريب إلزامي على حماية الطفل، إلى جانب لوائح واضحة تمنع وجود أي عامل بمفرده مع الأطفال في أماكن مغلقة، وتفرض وجود إشراف دائم في أية منطقة يتواجد فيها الأطفال.
كذلك، لا بد من إلزام كل المدارس – وخاصة الدولية والخاصة ذات المصروفات العالية – بمنظومة كاميرات تغطي كل الممرات، وساحات اللعب، ومحيط الفصول، مع استثناءات محددة تحافظ على خصوصية الأطفال في الحمامات وغرف تغيير الملابس، مع تعويض ذلك بزيادة عدد المشرفين والمشرفات وتدريبهم. الكاميرا ليست مجرد أداة عقاب بعد وقوع الجريمة، بل رادع مسبق، ورسالة بأن المدرسة «تُرى» ولا تعمل في الظلام.
عنصر آخر لا يقل أهمية هو إنشاء «وحدة حماية الطفل» داخل كل مدرسة، ترتبط إداريًا بالوزارة وليس بمالك المدرسة، يكون لها خط ساخن مخصص لأولياء الأمور والطلاب، وإجراءات معلنة للتعامل مع أي شكوى أو إشارة خطر. وزارة التعليم يمكنها، بقرار تنظيمي واحد، أن تجعل وجود هذه الوحدات شرطًا لتجديد الترخيص، مع نموذج تقارير دورية يُرفع للإدارة التعليمية عن شكاوى الإساءة أو التنمر أو العنف أو التحرش، وكيف تم التعامل معها.
دور الوزارة كذلك يجب أن يتوسع في التوعية، لا في البيانات. الأطفال في سن الخامسة يمكن – وبأسلوب مبسط – أن يتعلموا ما هو «اللمس الآمن» و«اللمس غير المقبول»، وأن يتشجعوا على الحديث مع أهلهم ومع المعلمة إذا تعرضوا لأي سلوك مريب. إدماج مناهج مبسطة لحماية الطفل داخل الأنشطة المدرسية بات ضرورة، لا ترفًا تربويًا.
ولا يمكن إغفال دور أولياء الأمور أنفسهم، لكن تحميلهم المسؤولية لا يعني إعفاء الوزارة. المطلوب هو شراكة: مجالس آباء فاعلة، حضور حقيقي في حياة المدرسة، زيارات مفاجئة، حق في الاطلاع على سياسات الحماية وإجراءات الشكاوى، وفي نفس الوقت التزام الوزارة بحمايتهم عندما يُبلغون، لا تركهم في مواجهة إدارات مدارس تملك المال والنفوذ والمحامين.
مأساة العبور اختبار حقيقي لوزارة التربية والتعليم: إما أن تُترجم الغضب المجتمعي إلى إصلاحات مُلزمة، تتبعها حملات تفتيش ورقابة صارمة على كل المدارس الدولية والخاصة، وإما أن تكتفي ببيانات مطمئنة، فنكتشف بعد شهور أننا أمام قصة جديدة، وضحايا جدد، وأسر مكسورة من جديد. أطفالنا ليسوا «تفاصيل» في قصة استثمار تعليمي أو تجارة تعليم دولي؛ هم خط أحمر، وأي نظام تعليمي لا يضع حمايتهم في المرتبة الأولى، يفقد شرعيته قبل أن يفقد سمعته.









