فور إعلان نتيجة المرحلة الاولى للانتخابات، الاسبوع الماضي، قفز الى ذاكرة البعض اسم «يحيى ابراهيم» باشا، رئيس وزراء مصر الذى أجري، سنة 1924، أول انتخابات نيابية بعد إقرار دستور سنة 1923، وتعد هذه الانتخابات فى نظر معظم الدارسين والمحللين، نموذجا للنزاهة والحياد من قبل المشرفين على العملية الانتخابية.
وحين تحـاول التفتيش عن معايير النزاهة والشفافية، نجد الكثير من المفاجأة، لم يكــن هنـاك إشـــراف قضــائى علـى الانتخــابات ولا صنــاديق زجاجية ولا حبر فسفوري، لا نعرف كذلك مدى اقبال الناخبين على اللجان ولا معايير الدعاية الانتخابات تمت بإشراف وزارة الداخلية، كان رئيس الوزراء هو نفسه وزير الداخلية.
ثقة الدارسين فى نزاهة تلك الانتخابات، يعود الى رئيس الوزراء نفسه يحيى ابراهيم، اذ طالب رجاله بالحياد والنزاهة، هو نفسه كان مرشحًا فى الشرقية، وخسر الانتخابات أمام أحمد مرعى (أفندي) ذلك هو مؤشر النزاهة الذى ارتضاه وأقر به الجميع.
كان من الممكن تفسير عدم نجاح رئيس الوزراء، يعود الى انه لم يكن ابن المنطقة، بينما منافسه من عائلة عريقة هناك، عائلة مرعي، التى ستقدم لمصر فيما بعد المهندس سيد مرعى النائب البارز فى العصر الملكى ثم وزيرًا بارزا زمن عبد الناصر ورئيس مجلس الشعب فى عهد السادات.
وكان من الممكن تفسير عدم نجاحه انه ليس وجهًا شعبيًا، رجل تكنوقراط كفء جدا ومخلص، لكنه ليس معروفا بقدر كاف لدى المواطنين فى الشرقية او غيرها، رغم انه كان من قبل وزيرا للمعارف.
كانت نتيجة الانتخابات فوزًا كاسحا لمرشحى الوفد وتراجع كبير للحزب الوطنى والاحرار الدستوريين، بما يشى انها كانت أقرب الى استفتاء، لكن ذلك كان المزاج العام وقتها، أجواء القضية الوطنية وثورة سنة 1919.
يمكن القول ان رئيس الوزراء وكذلك الملك فؤاد فى تلك المرحلة والتعامل مع بريطانيا تقتضى وجود الزعيم سعد زغلول فى الصدارة، فضلا عن ان فوز رئيس الحكومة بمقعد فى البرلمان لن يضيف اليه، فسوف يجد نفسه وسط أغلبية كاسحة من النواب ليس متفقا معهم حزبيًا.
فور اعلان النتيجة تقدم رئيس الحكومة باستقالته واستقالة الحكومة، وقبلها الملك فؤاد ثم كلف سعد زغلول بتشكيل حكومة جديدة عرفت باسم حكومة الشعب، لكن لم تستمر سوى شهور فقد اطاحت بها عملية اغتيال» السير لى استاك»، سردار الجيش الانجليزي، حين وقعت الجريمة قال سعد زغلول ان الرصاصات أصابته هو.
حين يلعلع الرصاص والعنف تختفى الديموقراطية وتذوب نتيجة الانتخابات.
>>>
الذى جعل الكثيرين يتفقون على نزاهة تلك الانتخابات ان من خسروا الانتخابات أقروا النتيجة ولم يشككوا فيها، صحيح انه كانت هناك اعتراضات على تقسيم وحدود بعض الدوائر، لكن تلك كانت مسألة ادارية.
الواقع ان تاريخ ودور يحيى ابراهيم فى الحياة المصرية أكبر من ان يختزل فى خسارته لمقعد فى مجلس النواب بانتخابات هو من أشرف عليها، لكنه نموذج لإخلاص وأخلاقيات التكنوقراط مهنيًا لقواعد وآداب العمل والواجبات الوظيفية.
بعد انتخابات سنة 1924، لم تنج نتيجة انتخابية من التشكيك أو الطعن عليها سواء فى الخطاب العام او عبر وسائل قانونية، وبغض النظر عما إذا كانت الطعون والشكوك جادة او انها من باب خلق مظلومية واتخاذ دور الضحية استجلابا لعطف الشارع أو عطف بعض الجهات الرسمية.
قبل ثورة يوليو 25، تحفل ادبيات الاحزاب المصرية بما كان يسمى الالاعيب والعبث الانتخابي، سواء فى قلب الدوائر أو فى صناديق الانتخابات، جمعتنى جلسات ودية مع أحدٍ رموز حزب الوفد القديم وراح يحكى الخطط التى وضعوها لخوض انتخابات سنة 1950، فاز فيها الوفد باكتساح، ما اعتبره الرمز «شطارة «، يمكن من وجهة نظر اخرى ان نعتبره تلاعبًا وربما تزويرًا، لكن بعيدا عن مقار اللجان الانتخابية.
حتى فى زمن التنظيم الواحد، الاتحاد الاشتراكى العربي، كان الصراع بين اجنحته مميتا فى بعض المشاهد، فى إحدى الانتخابات زمن الرئيس جمال عبد الناصر، تمت الاطاحة بأنور الســادات شخصيا، زميل وصديق عبدالناصر نفسه.
هكذا هى الانتخابات دائما.
>>>
وهذا ما جرى مع نتيجة الانتخابات فى المرحلة الاولى، قررت الهيئة الوطنية اعادة اجراء الانتخابات، على المقاعد الفردية فى (19) دائرة من بين سبعين دائرة، أى أكثر قليلا من ربع الدوائر وهى نسبة كبيرة.
لكن هذه النتيجة فتحت صندوق الشكوك، خاصة انه اعقبها اعلان اثنين من المرشحين انسحابهما من جولة الاعادة، رغم ان فرص كل منهما تبدو جيدة، كل ذلك زاد من الشكوك والتساؤلات الحائرة، يمكن ان نلحظ ذلك فى الاعداد الكبيرة من الطعون على النتيجة تقدم بها اصحابها الى المحكمة الادارية العليا.
انتهى عصر تسويد البطاقات وتصويت الموتي، اساليب الحزب الوطنى الديموقراطي، ولت معه، لكن الهيئة الوطنية اشارت الى اخطاء وتجاوزات مثل الدعاية لبعض المرشحين على ابواب بعض اللجان الانتخابية ومثل تباين الارقام بين اللجان الفرعية واللجنة العامة وكذلك عدم منح المرشح او وكيله صورة من محضر الفرز باللجان الفرعية، وهنا ثارت التساؤلات ..هذه الاخطاء مجرد ضعف ادارى وعدم انتباه لبعض السلبيات ام كانت متعمدة ؟هل بلغ تراجع الخبرات الادارية هذا الحد ومن المسئول ؟
لكن هناك تساؤلات فى مستوى آخر تمضى الى النهاية مثل ان نفس الاجراءات والاخطاء تمت فى اللجان بالنسبة للمقاعد الفردية ومرشحى القائمة، ألا يصح الغاء النتيجة برمتها؟
من حسن الحظ ان الطعون كلها معروضة على القضاء وسوف يتم الفصل فيها غدًا وقبل جولة الاعادة وفق توقيتات الهيئة الوطنية للانتخابات.
بالتأكيد سوف يكون الحكم القضائي، حدًا فاصلا بين ما يدور فى الفضاء العام حول ما جرى فى المرحلة الاولى من الانتخابات.
>>>
ما جرى فى المرحلة الاولي، ربما كان مفيدا للمرحلة الثانية، التى ينتهى التصويت بها مساء اليوم.
الافادة للمرشحين، كى لا يندفعوا خلف حماس يتجاوز القواعد القانونية والحدود الادارية، وافادة فى الالتزام بالإجراءات التنظيمية.
>>>
وسوف يذكر التاريخ ان الفيصل فى الانتخابات البرلمانية 2025، كان رئيس الجمهورية بنفسه، الرئيس عبد الفتاح السيسى، حينما أطلق تدوينته الشهيرة حول الضجر العام من بعض ما جرى فى المرحلة الاولي.
كانت التدوينه رسالة تجاوب من الرئيس مع المواطنين مباشرةً، يعلن فيها انه يتابع ويتفهم قلق المواطنين ومخاوفهم من بعض الممارسات، خاصة استطالة البعض من الاثرياء الجدد فى بلادنا ومحاولة انتزاع مقاعد فى البرلمان القادم.
ناشد السيد الرئيس اللجنة الوطنية ان تمارس استقلالها الى ابعد مدي، حتى لو بلغ الامر اعادة الانتخابات برمتها، اراد الرئيس تذكرة الجميع باستقلالية الهيئة، وأنها لا تخضع فى عملها لأى ضغوط ولا مواءمات، ويحمى البعض من جوانب الضعف الانساني.
يترأس اللجنة رجل قضاء جليل وكل الاعضاء من السادة القضاة الاجلاء.
وبعد التدوينة كان السيد الرئيس فى زيارة لأكاديمية الشرطة وفى حديثه الى الطلاب وفى حضور وزير الداخلية وقادة الوزارة، تحدث الرئيس السيسى مجددا فى هذا الامر، محذرا بشدة مما يسمى المال السياسي.
ببساطة يريد الرئيس انتخابات نزيهة وشفافة، تفرز بين ابناء الوطن وتقدم من يرغب فيه ويريده الناخب.
خاطب الرئيس اللجنة الوطنية مباشرة وخاطب الرأى العام من اكاديمية الشرطة، مؤكدا نفس المعني.
الرئيس يريد برلمانا لا تكون شرعيته مهتزة بنظر الرأى العام، برلماناً ليس فيه نائب مفروض على الناس بأموال دفعها ونفوذ مارسه.









