لم يعد الطفل اليوم ينتظر شاشة التلفزيون ليرى ما هو جديد؛ فالعالم بكل ما فيه أصبح ينساب أمامه عبر شاشة هاتف لا يتجاوز حجم الكف. وبينما يتيح له هذا الفضاء الواسع فرصًا مذهلة للتعلم والإبداع، فإنه يعرّضه في الوقت نفسه لسيل من الأفكار والسلوكيات التي قد تتسلل إلى وعيه بهدوء، وتهدد ما تبنيه الأسرة والمدرسة من قيم تربوية على مدار سنوات.
وربما ليست المشكلة في منصّة بعينها، لكن «تيك توك» أصبح النموذج الأكثر وضوحًا. فهو يقدم محتوى سريعًا، جذابًا، وبارعًا في خطف انتباه الأطفال والمراهقين، وغالبًا ما يتضمن «نصائح» أو «ترندات» قد تُربك أولياء الأمور وتخلق حالة تربوية مشوشة.
- وهنا يأتي السؤال الحقيقي: كيف نحصّن أبناءنا؟
الإجابة ليست في منع الأبناء ولا في ملاحقتهم، بل في تربية «ذكاء رقمي» يلازمهم أينما ذهبوا.
الذكاء الرقمي ليس مجرد قدرة على استخدام الأجهزة أو معرفة كيف يبحث الأطفال في الإنترنت. إنه منظومة مهارات عاطفية ومعرفية وأخلاقية يحتاجها الطفل ليكون مواطنًا رقميًا واعيًا ومسؤولًا.
إنه القدرة على التمييز بين المعلومة الصحيحة والمضللة، فهم دوافع صانع المحتوى، إدراك مخاطر مشاركة البيانات، التعامل مع التنمر الإلكتروني، واحترام الآخر في المساحات الرقمية.
ولعل أهم ما في الذكاء الرقمي هو القدرة على التحليل قبل التفاعل، وطرح أسئلة بسيطة لكنها جوهرية:
هل هذا المحتوى موثوق أم مجرد ترند؟، هل يقلّد هذا الشخص سلوكًا خطيرًا؟، لمن يعود هذا الحساب ولماذا يقدم هذه النصيحة؟، ماذا سيحدث لو شاركت هذا الفيديو أو علّقت عليه؟
هذه الأسئلة الصغيرة هي حجر الأساس في تربية طفل لا ينخدع بـ«نصيحة مؤثر» ولا ينساق وراء فيديو يحصد ملايين المشاهدات فقط لأنه ممتع.
فليس كل ما يقدمه تيك توك مضللًا أو ضارًا. هناك محتوى تعليمي مميز، ونصائح مفيدة، وطرق مبسّطة لشرح مفاهيم معقدة.
لكن الخطر الحقيقي هو غياب دور الأسرة وترك الطفل وحيدًا يواجه هذا السيل من المحتوى. فالبقاء في الخلف ومراقبة المشهد بصمت ليس تربية، بل استسلام.
الطفل الذي ينشأ على الذكاء الرقمي لن يكون «مطيعًا» فقط في التعامل مع التقنية، بل سيكون شريكًا في الحوار، قادرًا على نقد ما يشاهده، وعلى فهم كيف تتشكل الآراء وكيف تعمل الخوارزميات ولماذا يدفعه التطبيق إلى فيديو معين دون آخر.
- كيف نبدأ؟
- التوعية قبل المنع: اشرح لطفلك لماذا قد يكون بعض المحتوى ضارًا، بدلًا من حظر التطبيق دون تفسير.
- شاهد معه: عشر دقائق يوميًا تكفي لتعرف ما يجذب اهتمامه وما الذي يقلقه أو يؤثر فيه.
- علّمه أدوات التحقق: كيف يتحقق من المعلومة؟ كيف يميّز الأخبار المضللة؟
- اتفاق أسري واضح: قواعد استخدام الهاتف يجب أن تكون مفهومة ومتفاوض عليها، لا أوامر مشددة تنتهي بالتمرد.
- قدّم بديلًا: الطفل الذي يعيش فراغًا سينجذب لأي محتوى. نشاطات وأنشطة حقيقية تقلّل من التعلق بالشاشة.
في النهاية.. معركتنا اليوم ليست مع تيك توك، ولا مع أي منصة أخرى، بل مع طريقة التفكير التي نزرعها في عقول الأطفال.









