دائمًا ما يستعير كتّاب العلاقات الدولية هذا المصطلح الأدبى اللافت: «تدوير الزوايا». يستخدمونه للدلالة على فكرة الحل الوسط الذى يكون هدف المتفاوضين فى أغلب الأحيان، عندما لا يكون لدى أى طرف استعداد للدخول فى معركة صفرية من نوع «أكون أو لا أكون». فعندما يغيب الاستعداد للمواجهة الحاسمة أو الصدام المباشر، يصبح الحل الوسط هو المنطقة الواسعة التى تتحرك فيها الدبلوماسية، وتُدار فيها المفاوضات، وتُصاغ فيها البيانـــات بلــــغة رمـــادية تحتمل أكثر من معني.
فى مثل هذه الأجواء، تصبح الكلمات نفسها أدوات تفاوض. كل مفردة يجب أن تكون قابلة للتأويل، وكل جملة لها وجهان أو أكثر، ومسارات الحوار لاتسير فى خط مستقيم بل تتشعب إلى طرق جانبية يمكن الهروب إليها أو منها بسهولة. وفى المفاوضات السياسية، تكون أعين الجميع على «الزوايا»، كيف يمكن تنعيمها وتحويلها إلى دوائر، أو على الأقل إلى منحنيات بلا نتوءات حادة. الهدف ببساطة هو إزالة تلك السنون المدببة التى تعيق الحركة وتكسر المسار.
لكن هناك مدرسة أخرى تمامًا، مدرسة ترى أن تدوير الزوايا ليس حلًّا بل تهرّبًا. أصحاب هذه النظرة لا يثقون فى الحلول الوسطي، ويعتبرونها مجرد تأجيل للأزمات وليس حلًّا لها. هؤلاء يؤمنون بأن «الكسر أولى من النحت»، وأن الخطوط المستقيمة أفضل من المنحنيات، وأن الحقيقة يجب أن تُقال كما هي، بلا تجميل ولا مواربة. لذلك نجدهم لا يكتفون بالابتعاد عن تدوير الزوايا، بل يلجأ بعضهم إلى ما يمكن تسميته «تزوية الدوائر» أى تحويل الدائرة اللينة إلى مربع صارم، والمرونة إلى حسم، والمناورة إلى مواجهة مباشرة.
هؤلاء لا يحبون المناطق الرمادية، ولايقبلون أنصاف الحلول، ولا يملكون صبرًا طويلًا على النقاشات الملساء. هم يريدون الوصول إلى جوهر الخلاف فورًا، ويبحثون عن النقطة الحادة التى يبدأ منها الصدام، لأنهم يرون فيها بداية الحل لا نهايته.
ورغم أن هذا الجدل يبدو مرتبطًا بعالم السياسة والدبلوماسية ومفاوضات إنهاء الحروب وتسوية النزاعات، فإن الحقيقة أن الفكرة موجودة فى حياتنا جميعًا. نحن نقابل النموذجين يوميًا، ونتعامل معهما ربما دون أن ندري.
فالشخص الواضح المباشر، الذى لا يقبل اللف والدوران، هو الذى يدخل فى صلب الموضوع بلا مقدمات. لا يستهلك وقته فى التمهيد ولا يمشى على أطراف القضايا، بل يدخل من الباب الحاد: الخلاف الأساسي. هذا الشخص يحسم بسرعة، ويغادر بسرعة، لأنه ببساطة لا يرى قيمة فى التفاصيل الثانوية. هو نموذج يفضل الزوايا الواضحة على المنحنيات الناعمة.
وعلى الجانب الآخر، نجد أولئك الذين يطيلون الحديث فى المتفق عليه، ويتجنبون نقاط الخلاف، ويحرصون على أن يكون الجو لطيفًا مهما كان الموضوع معقدًا. تجدهم مبتسمين، ودودين، يجيدون فن الإصغاء والملاطفة، لكنك إذا تأملت النتيجة ستجد أنهم لا يحسمون شيئًا. لغتهم لينة إلى حد أنها تفقد الصرامة، ومواقفهم مرنة إلى درجة الذوبان. هؤلاء لا يحبون الزوايا أصلًا، ويفضلون المنحنيات، بل ويصنعونها إذا لم يجدوها، تمامًا كما يفعل خبراء العلاقات الدولية.
وأنا شخصيًا كثيرًا ما ألخص سلوك هذه الفئة بعبارة أقولها عندما يبدأ أحدهم فى «شرح المشروح وإيضاح الواضح»: «بلاش تاخد الملف على واسع… ادخل فى الموضوع.» وإذا ما استرسل أحدهم فى الكلام بلا نهاية، أتذكر عبارة الدكتور فتحى سرور «رحمه الله» حين كان يقاطع النواب بابتسامته وصوته المميز قائلاً: «وبِناءً عليه…» كان يريد إعادة النقطة إلى مركزها، وإعادة النقاش إلى زاويته الأصلية.
والطريف أننا ربما نجد الشخص نفسه يؤمن بالنظريتين معًا: تدوير الزوايا وتزوية الدوائر. مع البعض يكون ودودًا، مرنًا، يسمع ويناقش ويتراجع ويقبل الحلول الوسط. ومع آخرين يتحول إلى شخصية صارمة، واضحة، لا ترى إلا الخط المستقيم. هذا التناقض ليس نفاقًا، بل ربما يكون نوعًا من الواقعية. فطريقتك فى التعامل مع أبنائك تختلف عن طريقتك مع رؤسائك، ونبرة صوتك مع صديق طفولة ليست هى نفسها مع مسئول كبير. لكل موقف «زاويته» كما لكل علاقة «منحناها».
ومع ذلك، يظل النموذج المثالى فى رأيى هو ذلك الشخص الذى يملك سلوكًا واحدًا مع الجميع. الوضوح نفسه، واللغة نفسها، والمبدأ نفسه. قد يدفع ثمن هذا الوضوح فى البدايات، لكن بمرور الوقت سيعرف الناس أنه ليس رماديًا، وأن التعامل معه لايحتاج خرائط ولا مسارات التفاف.
ولذلك، وربما من باب التجربة قبل النصيحة، أقول إننا بحاجة إلى أن نجرّب جميعًا هجرة المناطق الرمادية… وهجران الشخصيات الرمادية. ليس لأن الحياة كلها صدام أو لأن الحسم دائمًا هو الحل، بل لأن وضوح الزوايا كثيرًا ما يكون هو أول خطوة نحو الاستقرار، بينما المنحنيات قد تطيل الحركة… لكنها لا تغيّر الاتجاه









