تناولنا فى المقال السابق أن محافظات المرحلة الأولى قدمت فى انتخابات مجلس النواب مشهداً انتخابيا يعكس نضج التجربة الديمقراطية المصرية، وأنه بعد مرور أكثر من قرن ونصف على بداية الحياة النيابية، تسعى مصر صاحبة التاريخ إلى إحداث تحول هيكلى فى بنية الاقتصاد الوطني، قائم على تعزيز الاقتصاد المعرفي، وتمكين الفئات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، وبالتالى فإن أولويات البرلمان القادم يجب أن تعزز وضع الخطط العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، فمن الناحية الاقتصادية يجب ضمان تحقيق معدل نمو مرتفع للناتج المحلى الإجمالى الحقيقي، وزيادة نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالي، كذلك زيادة صافى الاستثمار الأجنبى المباشر على نحو مطرد ليصل إلى 55 مليار دولار فى عام 2028/2029.
أما عن أولويات البرلمان القادم من الناحية الاجتماعية، فقد تم تدشينها بانحياز الرئيس السيسى لها عبر مطالبته للشعب المصرى باختيار «الأفضل» فى الانتخابات البرلمانية دون التأثر بالمال، وذلك بعد أن طالب الرئيس السيسى هيئة الانتخابات بعدم التردد فى إلغاء النتائج فى حال التأكد من وجود تجاوزات كبيرة وهو ما حصل بالفعل فى عدد من الدوائر، وبالتالى فإن دعوة الرئيس السيسى تأكيد للالتزام بالقواعد القانونية، واحترام إرادة المواطنين، ودعم تشكيل برلمان متوازن يعكس تنوع المجتمع. وهو ما يؤكد أهمية أولويات البرلمان الاجتماعية التى تتمحور حول سن القوانين التى تركز على المواطنين ووضع سياسات تخدم تنمية المجتمع المستدامة، وتمثيل آراء المواطنين ومراقبة أداء السلطة التنفيذية لضمان تحقيق العدالة الاجتماعية. وتشمل هذه الأولويات أيضاً ضمان عدم تهميش أحد،من خلال قوانين وسياسات فعالة، وإشراك المجتمع فى صنع القرار وهو تطبيق متوازن لفكر ديمقراطى أرساه المفكر الفرنسى جان جاك روسو «1712-1778» بأن المواطن ينبغى أن يشارك مباشرة فى عملية صنع القرار. لذا فقد أولى دستور مصر 2014 الاهتمام بمفهوم العدالة الاجتماعية، من حيث المبادئ العامة والعناصر التى تساهم فى تحقيقها، فمقدمة الدستور أقرت بأن طموح الحراك الشعبى لم يقتصر على تحقيق الحرية، إنما العدالة الاجتماعية أيضاً وأعطى الدستور دوراً محورياً للعدالة الاجتماعية إذ ربطها ربطاً مباشراً بأهداف النظام الاقتصادى من أجل تحقيق الرخاء فى البلاد، والتنمية المستدامة حسب ما جاء فى المادة 27، أيضاً نصت المادة 8 من الدستور على أن المجتمع يقوم علي»التضامن الاجتماعي» وأن الدولة تلتزم بتوفير سبل التكافل الاجتماعى بما يضمن الحياة الكريمة لجميع المواطنين. كما تضمن الدستور ايضاً مواد بشأن الحقوق الاجتماعية، ومنها ما يتعلق بضمان الحقوق الكاملة للأشخاص ذوى الإعاقة ودمجهم مع غيرهم من المواطنين، وهكذا لم تعد العدالة الاجتماعية مبدأً دستورياً فقط إنما أيضاً هدفاً تلتزم الدولة بتحقيقه. وبالتالى فإننا نرى أن دعوة الرئيس السيسى لإصلاح المشهد الانتخابى للبرلمان تمثل محاولة جادة لتحويل النصوص الدستورية إلى سياسات اجتماعية فاعلة رغم أن هذه النصوص قد اصطدمت بالعديد من العوائق السياسية سابقا، إذ أعطت الحكومات المتعاقبة الأولوية للقوانين المتعلقة بتحفيز الاقتصاد على حساب النصوص الاجتماعية الراسخة، وما نؤكد عليه أننا نشهد مزيداً من التحولات نحو قدر أكبر من الديمقراطية وتنوع لآليات التحول الديمقراطى ومقوماته. ولكن لا يجب أن يأخذنا هذا التطور الحميد عن إبراز الأثر الهام لتطور دور البرلمان فى هذا التحول، سواء من ناحية قدرة البرلمان على ممارسة مهامه التشريعية والرقابية أو من حيث الإطار الدستورى والقانونى المنظم لصلاحياته، أو من حيث الإرادة السياسية لتفعيل دوره، أو من حيث تغيير الصورة الذهنية النمطية عنه لدى الرأى العام، وأخيراً من حيث العوامل المساعدة للأعضاء فى ممارسة تلك المهام وأنه اذا كانت الانتخابات هى الوسيلة الأساسية التى توصلت إليها التجربة السياسية المتراكمة عبر الأجيال لتحديد شرعية أو عدم شرعية أنظمة سابقة، لكن الرئيس السيسى أكد بمواقفه التاريخية أن هذه الانتخابات ما هى إلا وسيلة لتعزيز بناء المجتمع الديمقراطي، وطريقة يمكن بواسطتها معرفة إرادة الشعب. وحتى تكون كذلك فإنه لا بد من توفر عدد من الأسس والمتطلبات والشروط حددتها القيادة السياسية، أهمها اختيار النظام الانتخابى المناسب.









