مازال بعض الذين يتحدثون باسم الإسلام، يخشون إعمال عقولهم فى أمور الدين، ويعتبرون ذلك ضرباً من العبث ينتهى بنا إلى هدم الدين، ويظهر بعض هؤلاء- للأسف- من خلال فضائيات دينية أو عامة يحذرون الناس من كل مَنْ يعمل عقله لفهم بعض النصوص الشرعية فهماً عصرياً، أو يجتهد لبيان موقف الشرع فى قضية مستحدثة.. ومحاورة هؤلاء تؤدي- للأسف- إلى مزيد من الجدل العقيم الذى يشتت عقول المسلمين، ويدخل بهم فى متاهات ومشاجرات فكرية، لا تعمق إيماناً، ولا تنير الطريق أمام الحائرين أو المتسائلين عن دور العقل والعلم فى فهم قضايا الدين، وفى تعميق الإيمان وتوجيه العقول إلى الطريق الصحيح لمعرفة حقائق الدين والحياة.
العقل فى نظر الإسلام- كما يؤكد الإمام الأكبر د.أحمد الطيب- هو مناط التكليف، وهو الذى يعيننا على الإيمان بالله ورسله وملائكته واليوم الآخر، فإثبات وجود الله تعالى يعتمد على دليل العقل، وما يتطلبه من نظر ومقايسة واستنباط، وأن هذا الإيمان لا يعتمد على دليل النقل وحده.. فالعقل فى منظور ديننا وشريعتنا الإسلامية هو مناط معرفة الله، وهو الأساس الذى يعتمد عليه القرآن فى خطابه للناس، وتكاليفه الشرعية سواء فى العبادات أو المعاملات، وهذا هو سر تكرار كلمتى «العقل والعلم» لفظاً ومعنى فى كتاب الله الخاتم.
> لقد أرشدنا القرآن الكريم إلى أهمية العقل فى تحصيل الإيمان بالله تعالي، وهذا لا يعنى أنه أهمل طريق الفطرة، التى هى الاستعداد القوى والميل الجارف الذى يدفع بالإنسان دفعاً نحو الإقرار بوجود إله خالق للكون ومدبر له.. فهذا الشعور الذى يمثل قدراً مشتركاً بين الناس جميعا لا يخلو منه أحد من الناس منذ بدء الخليقة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يشعر به الصغير والكبير والعالم والجاهل، والمتحضر والمتخلف، ويستوى فى الإحساس به الفيلسوف والخامل حيث يقول الحق سبحانه: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا».
ومما يؤلم كل مسلم حريص على أن يظل دينه نقيا خاليا من الشوائب- كما يقول شيخ الأزهر إن الظنون والأهواء صارت فيصل التفرقة فى التعرف على الحق والباطل، والخطأ والصواب، وأصبح اللَبس الذى تثمره هذه الظنون هو الحق الذى لا حق سواه، حتى صار المتمسك بمعيار العقل والمستضيء بمنطقه وعلومه يشعر بغربة موحشة من شدة ما يتناثر على طريق الحق من أغاليط ملتوية وشبهات مظلمة وتعميمات كاسحة.
> لذلك يجب على كل مسلم يلتبس عليه الأمر فى فهم وإدراك بعض حقائق الدين أن يرجع إلى «أهل الذكر» فى الأمور التى تخفى على الناس ولا يعلم حقيقتها إلا العارفون بها، فهذا هو مطلب القرآن منا جميعاً، كما هو واضح فى قوله تعالي: «فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»، كما ينهانا الله سبحانه عن تحكيم الظن فيقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم»، ويقول: «إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا»، وقد حذَّر النبى صلى الله عليه وسلم أمته من أن يتخذوا الظَن معياراً يتعرفون به على حقائق الأشياء، ويصدرون أحكامهم عليها، وكأنه الحق الذى لا حق غيره، فيقول: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ»، مِمَّا يعنى أن من يركن إلى الظن ويتخذه سبيلاً إلى العلم هو كذوب أفاك أثيم، وأخطر ما يتكشف عنه هذا المنهج المغلوط هو شيوع الشحناء والبغضاء والتخوين الذى هو آفة الآفات فى إيغار الصدور، وتجرع مرارة الآلام.. مطلوب من العقل المسلم التفرقة بين ما جاء به القرآن الكريم، وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوامر ونواة تحمل أحكاماً شرعية واضحة ومحددة.. وبين الأمور المتجددة التى تتطلب إعمال العقل فيها، لاستنباط الأحكام الشرعية العصرية التى تتناسب مع العصر.. فالمسلم أمام ما جاء فى القرآن والسنة النبوية الصحيحة لا يملك إلا التسليم بها، وعليه أن يرجع إلى أهل الذكر فيما التبس عليه من الأمور.. المؤمن الحق يؤمن كل الإيمان أنه مُطالب شرعاً بالاحتكام إلى ما شرعه الله له، فهو العالم بكل أحواله، الخبير البصير بما يصلحه وما يفسده «ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير».
> مطلوب من المسلم مع الإيمان والتسليم بكل ما سبق أن يعمل عقله فى كل ما حوله.. فالإسلام لم يجب على العقول، بل هويدفع العقول الرشيدة المستنيرة إلى التفكير الواعى والاجتهاد المنضبط فى كثير من أحكامها، لذلك فليس غريباً أن نرى شريعة الإسلام تقدس «النقل» ممثلاً فى نصوص القرآن والسُنة.. وتحترم «العقل» ممثلاً فى اجتهادات علماء المسلمين قديماً وحديثاً.. ولولا العقل الذى احترمه الإسلام وفتح أمامه كل مجالات التفكير والتحليق فى كل مظاهر الكون وإبداعاته ما عرف النقل، فالعقل الذى عرفنا بخالقنا وأثبت وجود الله، والعقل الذى أقنعنا بأن الله الخالق بعث رسلاً هداة للناس، وأن واجبنا اتباعهم، والسير خلفهم والالتزام بما أخبرنا به.. وبالعقل نعرف الآن الأحكام الشرعية فيما لم يرد فيه نص صريح من كتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومساحة الاهتمام بالعقل وقدراته فى شريعة الإسلام كبيرة جدا، لذلك كانت الثوابت فى مجال الأحكام الشرعية أقل كثيراً من الأحكام المتغيرة، وفقاً لأحوال المجتمع ومصالح الناس فيه، فثوابت الدين تحض العقل المسلم على الاجتهاد والتفكير السليم المنطقي، وبذل كل جهد لتوضيح حقائق الدين للناس وبذل كل جهد للارتقاء بالحياة العامة للمسلمين، فالمسلم وفقاً لتعاليم وتوجيهات دينه مأمور بالاجتهاد فى أمور الدين إذا كان مؤهلا لذلك.. ومأمور بالاجتهاد والإبداع والاختراع فى كل أمور الدنيا من أجل تحسين الحياة وتوفير كل مقومات الحياة الكريمة والمعيشة الطيبة للمسلمين وغير المسلمين.
الخلاصة، أن مهمة العقل الرشيد المؤهل للتفكير والتدبر واستنباط الأحكام أن يجتهد فى فهم النصوص ليعرف منها الأحكام فى ضوء الأصول والقواعد التى حددها علماء الأمة وفقهاؤها.. ونظراً لاختلاف العقول وتعدد مشاربها وتنوع ثقافاتها وتفاوت قدراتها، كان من الطبيعى أن تتعدد المدارس الفقهية وتتنوع مشارب الفقهاء، والشريعة الإسلامية التى عرفت بالمرونة والسعة واحترام العقل والاعتراف بقدراته تتسع لهؤلاء جميعا، لذلك كان لكثرة اجتهادات فقهاء الإسلام قديماً وحديثاً إثراء للفقه وسعة ورحمة بالأمة.









