أحلامنا لن تسقط بالتقادم .. هناك لحظات فى عمر الأوطان تشبه إشراقات الفجر؛ تأتى بعد صبر طويل، وبعد سنوات من الأمل المعلّق بين السماء والأرض، لحظات تُشعر الإنسان أن الحلم الذى طالما رآه بعيدًا، صار فجأة واقعًا ملموسًا أمام عينيه. أمس كان أحدُ هذه الأيام. لحظةٌ مصرية خالصة حين أعطى الرئيسان عبد الفتاح السيسى وفلاديمير بوتين إشارة البدء لتركيب وعاء ضغط المفاعل النووى فى محطة الضبعة لتوليد الكهرباء. مشهدٌ لم يكن احتفالية عابرة، بل تتويجًا لرحلة بدأت منذ عقود طويلة، وسارت على طريق طويل من الانقطاعات والتحديات، حتى وصلت إلى لحظة الإنجاز.
وأنا أتابع من موقع المفاعل شعرتُ أن الزمن يعود بذاكرته إلى الخلف؛ عاد بى إلى «أيام الوطن» كما أحب أن أسميها، تلك اللحظات المفصلية التى تجعل المصرى يشعر أن بلده رغم كل ما يمر به، لا يزال قادرًا على الحلم والإنجاز. تذكرتُ افتتاح قناة السويس الجديدة، ذلك اليوم الذى بدا كأنه فتح جديد فى التاريخ المصرى الحديث؛ ثم افتتاح الأنفاق تحت القناة، التى ربطت الوادى بسيناء كما لم يحدث من قبل؛ ثم افتتاح المتحف المصرى الكبير الذى انتظره العالم كله. كانت كلها أيامًا عظيمة، لحظات تشبه الأعلام المرفوعة فى صمت على جبال عالية. ولكن رغم كل ذلك، بقى الحلم النووى سيد الموقف، لأنه ليس مجرد مشروع؛ بل عبور نحو المستقبل.
محطة الضبعة ليست مجرد مجموعة مبانٍ على ساحل البحر المتوسط، وليست مجرد مكونات هندسية تُدمج فى بعضها البعض لتوليد كهرباء. إنها فكرة، ورؤية، وجرأة على الدخول فى نادى الكبار. منذ ستينيات القرن الماضي، ومصر تحلم أن تكون دولة نووية سلمية، تملك القدرة على إنتاج طاقة نظيفة، مستقرة، وآمنة. بدأ الحلم فى عصر عبد الناصر، وتوقف، ثم عاد ثم تعثر، وتعرض للكثير من العواصف السياسية، حتى بدا فى لحظات معيّنة وكأنه حلم لن يعود. لكن القدر كان يحتفظ لهذا الحلم بموعد جديد، وها هو الموعد قد حلّ.
المشهد أمس لم يكن تقنيًا فقط، بل كان رمزيًا للغاية. أن يُرفع وعاء ضغط المفاعل النووى، ذلك القلب الصلب داخل المنشأة، يعنى ببساطة أن المشروع لم يعد على الورق، ولا فى مرحلة الحفر والإنشاءات، بل أصبح على أبواب التشغيل الحقيقي. هذه اللحظة التى انتظرها المهندسون والعاملون والخبراء لسنوات، تمثل النقطة التى يتحول فيها المشروع من بنية أسمنت وحديد، إلى روح طاقة قادرة على إضاءة البيوت والمصانع والمدن.
كنت أشاهد الصور وأفكر: كم مرة حلم المصريون بمشروع كهذا؟ وكم مرة تعطّل؟ وكم مرة سُئل السؤال ذاته: هل نقدر؟ هل نمتلك القدرة على دخول مجال حساس ومعقد مثل الطاقة النووية؟ والإجابة تأتى اليوم بصوت عالٍ: نعم. نقدر. بل نفعل.
لماذا يبدو حلم الطاقة النووية مختلفًا؟ لأن الطاقة هى مفتاح التطور الحقيقى. الدول التى تمتلك مصادر طاقة مستقرة تكسب معركة الصناعة والزراعة والخدمات. والطاقة النووية تحديدًا، رغم ما قد يُثار حولها من مخاوف، تظل طاقة المستقبل: نظيفة، آمنة بمعايير اليوم، وقادرة على إنتاج كميات ضخمة من الكهرباء. ومصر، بتزايد عدد سكانها واتساع مشروعاتها القومية، تحتاج مصادر طاقة كبيرة ومستقرة، لا تتأثر بسعر برميل النفط أو بارتفاع أسعار الغاز.
ولعل الأكثر لفتًا للنظر، أن مشروع الضبعة لم يعد مجرد حلم دولة، بل أصبح مشروع أجيال. فالتعاقدات الحالية تتضمن نقل الخبرات وتدريب آلاف المهندسين والفنيين المصريين، بحيث يصبح تشغيل المحطة وإدارتها فى المستقبل صناعة وطنية خالصة. وهذا ربما هو الجزء الأهم فى المشروع؛ أن نبنى عقولًا، لا مبانى فقط.
وعندما شاهدت الرئيس السيسى يتحدث بثقة عن دقة التنفيذ وعمق الشراكة الممتدة لعقود، أدركت أن مصر تدخل مرحلة جديدة من التنمية، مرحلة لم تعد فيها المشروعات الكبرى مجرد إنجازات تُسجل فى سجلات الدولة، بل أصبحت أدوات لحياة أفضل، ومستقبل أكثر استقرارًا.
أحب دائمًا أن أربط بين المشروعات الكبرى وبين روح الأمة. فالمشروعات ليست خرسانة ومعدات، بل رسائل. وقناة السويس الجديدة كانت رسالة بأن الإرادة المصرية يمكن أن تُنجز ما يبدو مستحيلًا. والأنفاق تحت القناة كانت رسالة بأن سيناء ليست بعيدة كما كانت. والمتحف المصرى الكبير كان رسالة بأن مصر قادرة على تقديم حضارتها للعالم بأسلوب يليق بها. لكن مشروع الضبعة يحمل رسالة مختلفة: رسالة تقول إن مصر لا تعيش فقط على تاريخها، بل تتطلع إلى المستقبل بأدوات علمية حديثة، وطاقة متقدمة، وشراكات دولية متوازنة.
وأنا أكتب هذه الكلمات، أشعر بأن الحلم النووى لم يعد حلمًا، بل واقعًا ينهض على الأرض. واقعًا بدأ أمس بخطوة كبري، وسيمتد أثره لعشرات السنين. إن الطاقة النووية ليست مشروعًا يُنجز فى يوم أو شهر أو عام، بل مسار طويل يتسلم فيه جيل الراية من جيل، وتبنى فيه دولة مستقبلها ببطء وثبات.
أمس كان يومًا مصريًا خالصًا. يومًا تذكرتُ فيه أن الحلم حين يُصارع العقبات ويستمر رغم الظروف، لابد أن يتحقق. وهكذا تحقق حلم الضبعة… حلمٌ كتب على صفحة الوطن عنوانًا جديدًا: أحلام نووية تتحقق على أرض مصر.









