فى كل مرةٍ يُخيَّم فيها الصمت بعد انفجار، يكتشف العالم أن فى غزة أطفالًا يواصلون الحياة رغم أنها تُقاومهم.. انتهت الحرب الأخيرة.. لكن آثارها لم تنتهِ على وجوه الصغار الذين خرجوا من تحت الأنقاض لا يحملون حقائب مدرسية، بل ذكريات موجعة وقلقاً لا يزول، فأطفال غزة ليسوا مجرد ضحايا عابرين فى شريط أخبار، بل هم الشاهد الأبلغ على حرب تطحن ليس فقط الحجر والبشر، بل المستقبل نفسه فى صورة نفوس صغيرة لم تعرف من الحياة سوى الحرب والدمار.
ليس السؤال هنا: ماذا فعلت الحرب بأطفال غزة؟ فالسؤال يفترض أن هناك «قبل» يمكن العودة إليه، والحقيقة الأكثر إيلاماً أن كثيراً من هــؤلاء الأطفال وُلدوا داخل حصار مطبق، وعاشوا حياتهم القصــيرة كلها تحت وطأة صراع لم يختاروه، الحرب الأخيــرة لم تكن فصــلاً جديــداً فى مأســاتهم، بل كانت القمــة الجليــدية لبركان ظــل ينفث غضــبه بصمت لسنوات.
لو وقف فرويد أو جوستاف يونج (من أشهر علماء النفس) على أطلال بيت فى حى الزيتون أو الشجاعية، لوجدا أن نظرياتهما عن الطفولة واللعب والحنان تحتاج إلى إعادة كتابة، الطفل فى غزة لم يعد يعانى من «صدمة»، بل من «تحول وجودى»، الصدمة أصبحت جزءاً من نسيجه النفسى، هى الهواء الذى يتنفسه، والكابوس الذى يستيقظ منه ليجده حقيقة.
<< لعنة الذاكرة: ذاكرتهم ليست ألبوماً لصور العائلة والإجازات، بل هى أرشيف للدمار، صوت الطائرة بدون طيار «الزنانة» الذى يسبق الموت، ورائحة الغبار الممزوج بالدم، وعويل صفارات الإنذار. هذه ليست ذكريات، بل ندوب فى الروح.
<<اللعب فى زمن الحرب: حتى لعبتهم مسلوبة، كيف تلعب الكرة وأنت لا تعرف إن كانت ستهبط على ركام قد يخفى جثة صديق؟ كيف تلعب «الاستغماية» وأنت تعلم أن أفضل مكان للاختباء قد يصبح قبرك؟ لقد تحول اللعب، ذلك النشاط التلقائى البريء، إلى فعل مقاومة، مجرد ابتسامة على وجه طفل فى غزة هى إعلان انتصار على آلة الموت.
<< الأسرة: تلك الخلية الأساسية التى تبنى المجتمعات، تعرضت فى غزة لهزة عنيفة، بفقدان الآباء والأمهات، والأخوة، والمنزل الذى يجمعهم، الأطفال الذين فقدوا عائلاتهم أصبحوا «أسراً متنقلة» داخل أجسادهم، يحملون مسئوليات لا تتناسب مع أعمارهم، الطفل الذى أصبح «رب أمة» لأنه فقد أهله، هو ظاهرة اجتماعية تهدد النسيج الاجتماعى فى المستقبل، نحن أمام جيل قد ينشأ بفجوة عاطفية هائلة، مما يخلق شرخاً عميقاً فى قدرته على تكوين علاقات مستقرة لاحقاً.
<< المستقبل: الحرب لا تدمر فقط ما هو قائم، بل تدمر ما سيُبنى، كيف تبنى اقتصاداً عندما تدمر المدارس والجامعات؟ عندما يُحرم جيل كامل من التعليم النظامى؟ عندما تكون الأولوية هى البحث عن رغيف الخبز وقطرة ماء، وليس البحث عن فكرة فى كتاب؟
<<الحقوق: «الحق فى التعليم، الحق فى اللعب، الحق فى الرعاية الصحية، الحق فى الأمان»..هذه ليست كماليات، بل هى أساس عقد الطفولة مع الحياة، فى غزة، تم تمزيق هذا العقد بإصرار وحشى، المستشفيات مدمرة، والمدارس أصبحت ملاجئ، والملاعب مقابر جماعية، الطفل فى غزة لا يحلم بأن يصبح طبيباً أو مهندساً، بل يحلم بأن يعيش حتى الغد.
غزة اليوم تختبر الإنسانية. وأطفالها هم الشهود، قد نتمكن من إعادة بناء المبانى، ولكن إعادة بناء الطفولة المسلوبة هى المهمة الأصعب، وهى مهمة لا يمكن أن تبدأ إلا بوقف آلة الموت هذه، وتمكين هؤلاء الأطفال من حقهم الأساسي: أن يكونوا مجرد أطفال.









