ماذا يحتاج إنسان اليوم ليخرج من أزماته ومعاناته..؟!
هل عرفت الإنسانية طريقها للسعادة ببلوغ أعلى مراتب المعرفة والوصول إلى الذكاء الاصطناعى الذى صار يفكر نيابة عن الإنسان.. أم لا تزال فى حاجة لتهذيب الأخلاق، لتتوقف الحروب والصراعات على مكاسب مادية زائلة يمكن تحقيقها على تعاون البشر على عمارة الكون دون أطماع ولا مظالم..؟!
أين تكمن أزمة اليوم ..هل هى أزمة جهل معرفى أم جهل أخلاقى وفقر روحي.. أم غياب ضمير.. أم كل هذه العوامل مجتمعة؟!
وإذا كانت الإشكالية الأولى هى غياب الضمير أو ضعفه واعتلاله.. فكيف تستعيد البشرية ضميرها الغائب الذى يشكل غيابه كارثة كبرى تجعل العالم أشبه بغابة فقد أهلها رشدهم وعاثوا فى الأرض فساداً؟!
لقد أنشأت البشرية مدارس وجامعات لا تُعد، وأغرقتها بالعلوم والمعارف، حتى صار بيننا الطبيب والمهندس والفقيه والاقتصادى والمتخصص فى أدق تفاصيل الحياة، لكن شيئاً واحداً ظلّ عصيّاً على التكوين: الضمير. فقد نجحت المنظومات التعليمية فى صناعة العقول، لكنها عجزت عن صناعة الوعى الأخلاقى الذى يحكم تلك العقول ويرشدها. وهكذا نشأ جيل واسع يعرف كيف يعمل العالم، لكنه لا يعرف كيف يعيش الإنسان بكرامة وعدل ونزاهة. إن الجهل الأخلاقى ليس جهلاً بالمعنى المعتاد، بل هو عمى داخلى يفقد الإنسان قدرته على التمييز بين الحق والمصلحة، وبين الواجب والرغبة، فيخلط بين الذكاء والخداع، وبين النجاح والالتفاف على القوانين. قد يبدو صاحبه بارعاً ومثقفاً، لكنه يتصرف كما لو أنه بلا بوصلة، وهذا ما يجعل الطبيب قادراً على المتاجرة بآلام الناس، والعالِم الشرعى قادراً على تبرير الفساد، والسياسى قادراً على تزييف الوعى باسم الوطنية. فغياب الأخلاق لا يعنى غياب المعرفة، بل غياب وزنها وميزانها.
لقد انشغل التعليم طويلاً بإنتاج المهارة لا بناء الإنسان. صارت القاعات تدرّس كيف نجيب فى الامتحان، لا كيف نعيش فى المجتمع. تعلّم الطالب الجمع والطرح والحفظ والاستنتاج، لكنه لم يتعلم يوماً أثر كلمة تُحرج إنساناً أو قراراً يظلم آخر، ولم يستوعب أن الصدق والنزاهة واحترام الاختلاف ليست فضائل ثانوية، بل قواعد تأسيسية لأى مجتمع يريد أن يبقى حياً. ولهذا نرى التناقض المؤلم: رجل يجمع أعلى الشهادات لكنه يعجز عن احترام الوقت، أو رد الجميل، أو الاعتراف بخطأ، أو حتى قول «لا أعلم» دون مكابرة. إن غياب التربية الأخلاقية يحوّل العلم أحياناً إلى قوة عمياء، ويحوّل النجاح المهنى إلى فصلٍ جديد من الخسارة الإنسانية.
ويتعقّد المشهد أكثر حين يُختزل التدين فى مظهره لا جوهره، فيظن الناس أن الالتزام الشكلى كافٍ لصناعة الضمير. لكن التجربة أثبتت أن التدين حين ينفصل عن الأخلاق يتحول إلى طقس، وأن كل إنسان أخلاقى يمارس أصدق أشكال التدين وإن لم يرفع شعاراً. فالضمير الحقيقى هو القدرة على الصدق دون خوف، وعلى النزاهة دون رقابة، وعلى فعل الخير دون انتظار فتوى تُحرّك اليد أو عين تراقب السلوك. إنه الإيمان الداخلى الذى يتحرك من أعماق النفس لا من رهبة الخارج، ويجعل الإنسان مسؤولاً أمام ذاته قبل أن يكون مسؤولاً أمام أى سلطة.
وعندما يتسع الجهل الأخلاقى ليصبح سلوكاً جمعياً، تتشوه القيم فى الوعى العام. يتربى الأطفال على أن التحايل ذكاء، والغش مهارة، وأن الخطأ حين يكون جماعياً يصبح بلا عقاب. ومع الوقت يُغسَل الضمير العام تدريجياً، حتى يتحول الفساد إلى عادة، والكذب إلى مهارة اجتماعية، وخرق القوانين إلى فهلوة محببة. هذا الانحدار الصامت أخطر من أى أزمة اقتصادية أو سياسية، لأنه يضرب جذور المجتمع لا سطحه، ويضعف ما تبقى من الثقة بين أفراده ومؤسساته.
والحقيقة أن الأخلاق لا تُلقَّن فى درس، ولا تُزرع بخطبة، ولا تُحفظ فى امتحان. إنها ممارسة يومية تنشأ من بيئة تُكرَّم فيها النزاهة، ويُحترم فيها الصدق، ويُطبَّق فيها العدل على الجميع دون تمييز. فالمجتمعات لا تتعلم الأخلاق بالنصوص، بل بالسلوك العام، ولا تبنى الضمير بالشعارات، بل بالقدوة التى يراها الناس كل يوم. وعندما تسقط الأخلاق، لا تنفع القوانين ولا الهياكل، لأن من يطبقها يكون قد فقد الحس الذى يجعله يحترمها من الأساس.
ولعل ما تحتاجه مجتمعاتنا اليوم ليس إضافة مادة للأخلاق فى المناهج، بل إعادة تعريف جوهر التعليم كله. نحتاج إلى تعليم يوقظ التفكير قبل الحفظ، ويعلّم الفهم قبل الرفض، ويغرس القدرة على الاختلاف دون كراهية، وينشئ إنساناً يعرف أن مسئوليته تجاه الآخرين جزء من مسئوليته تجاه نفسه. نحتاج إلى منظومة ترى الإنسان لا العامل، والضمير لا الشهادة، والوعى لا المظهر. وحين يتشكل الضمير يكتسب الإنسان ميلاداً جديداً، فيتحول الخير لديه من واجب ثقيل إلى خيار واعٍ، ويتحول القانون من قيد إلى حماية، والمجتمع من ساحة تنافس شرس إلى فضاء تعاون إنساني.
لقد آن الأوان أن ننتقل من تعليم العقول إلى تربية القلوب، لأن العلم بلا أخلاق يصنع أدوات تهدم الإنسانية، والأخلاق بلا علم تصنع سذاجة تُجهض التقدم. أما حين يجتمع الاثنان، يتشكل الوعى الذى يُصلح الحياة، ويولد الإنسان القادر على أن يكون جزءاً من نهضة حقيقية تبدأ من الداخل قبل أن تمتد إلى الخارج. إن محو الجهل الأخلاقى ليس شعاراً أخلاقياً، بل شرطاً ضرورياً لأى مجتمع يريد أن ينهض بعلمه، ويستبقى إنسانيته، ويدافع عن قيمه فى عالم تتغير موازينه كل يوم.









