فن المقال واحد من أهم الفنون الأدبية التى ساعدت على انتشار الصحافة الورقية والإلكترونية وازدهارها فى عصرنا الحديث، وهو فن الفكرة المركزة، واللمحة العابرة، والكلمة المنتقاة، غير أن هذا الانتشار الواسع للصحف الورقية والصفحات والمواقع الإلكترونية قد أغرى كثيرين من غير المؤهلين لاقتحام فن الكتابة بصفة عامة والمقال بصفة خاصة، لإدراكهم وعورة مسالك الفنون الأدبية الأخرى من الشعر، والقصة، والرواية، والقصة القصيرة والأقصوصة، والكتابة المسرحية شعرا أو نثرا، ظنًّا منهم أن المقال هو الباب الأيسر والألين والأطوع والأقرب والأسهل تناولاً، متوهمين أن كل مجموعة جمل مصفوفة أو مرصوصة أى رصٍّ كان حتى لو كان بلا سبك ولا حبكة ولا أدوات فنية يمكن أن تكون مقالاً أو أن تجعل من صاحبها كاتبًا.
وأؤكد أن مقالات كبار الكتّاب شكلت مدارس فكرية، وأسهمت بقوة فى بناء الوعى السياسى أو الدينى أو الثقافى أو الوطني، وكان لكثير من هؤلاء الكتّاب بصماتهم التى لا تنسى فنيا وفكريا.
وأكاد أجزم بأن صفحات الرأى والتحليل، والتحقيقات والمتابعات الجادة الرصينة، وأقلام كبار الكتاب، وقدرة الصحف على استقطاب أولئك الكتاب الكبار للكتابة فيها مع مصداقية الصحيفة فيما ينشر من أخبار هو أهم ما يميز صحيفة على أخري، ويعطى لهذه ميزة على تلك، ويشجع القارئ الواعى المثقف على إيثار قراءة صحيفة دون أخري، بل قد يكون كاتب بعينه أو كاتبان أو مجموعة من الكتاب هم سر ذلك.
وكتاب المقال على الجملة فريقان : الكاتب المتخصص والكاتب الموسوعي، ولكل دوره وخصائصه، أما الكاتب المتخصص فهو ذلكم الكاتب الذى يحبس نفسه على فن من فنون المقال السياسي، أو الديني، أو الاقتصادي، أو الفني، أو الرياضي، أو العلمي، بحيث يصبح علمًا فى فنه، وعلامة بارزة بين قرائه المتخصصين بما قد يصل به إلى كونه عمدة أو مرجعًا لا يمكن تجاوزه فيما حبس نفسه عليه، وهذه مدرسة تستحق التقدير، غير أن صاحب هذا الاتجاه مع تميزه الشديد فيه يكون فى حاجة ماسة إلى قدرة كبيرة على حبس النفس على هذا الفن وكبح جماحها عما سواه، نظرًا لاتساع الهموم والرغبة الجامحة لدى كثيرين فى الإدلاء فى كل فن بدلو أو بطرف، وهذه القدرة على التحكم فى النفس لا يستطيعها كل الناس أو كل الكتاب، على أن خروج الكاتب مرة هنا أو هناك لا يخرج به عن كونه كاتبًا متخصصًا.
أما الكاتب الموسوعى فهو ذلكم الكاتب الذى يتخذ من المجتمع وفنونه وهمومه وقضاياه المتنوعة مادة خصبة واسعة، فهو أشبه ما يكون بالشاعر أو الروائى أو القاص أو المصور الذى يلتقط كل ما يخطف نظره أو يسترعى انتباهه، وليس حاطب ليل كما يقولون، إنما هو مبدع أو مفكر أو مثقف مهموم بهموم مجتمعه تتسع مداركه الثقافية والفكرية اتساع هذه الهموم والتحديات والمستجدات، فهو متتبع للأحداث متعقب لها، يعمل قلمه حيث شد انتباهه، غير أنه فى الأعم الأغلب يقف عند ظواهر الأمور، وإن تعمق أو تأمل أو حاول سبر أغوار بعضها فقد لا يكون بعمق هذا المتخصص المنقطع لفنه، وحتى لو حالفه التوفيق فى مقال هنا أو هناك فأصاب فيه المحز فإن التخصص يظل تخصصًا، والمتخصص يظل متخصصًا، والمبدع يظل مبدعًا، والمثقف يظل مثقفًا، والمفكر يظل مفكرًا، ولا عزاء للأدعياء والدخلاء.
ولابد أن أشيد من خلال متابعتى بكثير مما تقدمه صحيفة الجمهورية من رؤى ومقالات وتحقيقات تعد لبنة قوية فى بناء الوعى الصحيح بل الضرورى .









