يُعدّ قرار مجلس الأمن الأخير بشأن غزة واحدًا من أكثر القرارات تأثيرًا منذ عقود فى مسار الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، ليس فقط لأنه يدعو إلى وقف شامل للحرب وإعادة الإعمار، بل لأنه يكرّس لأول مرة منذ سنوات طويلة إطارًا دوليًا واضحًا يعيد الحديث عن الدولة الفلسطينية إلى قلب العملية السياسية. فرغم الأعتراضات من الفصائل الفلسطينية والتى لها وجهة نظر إلا أن أهمية القرار تتجاوز طبيعته الإجرائية أو البنود المباشرة التى يتضمنها؛ فهو يفرض تحولًا فى ميزان القوى داخل المشهد الدولي، ويضع حدًا – ولو مؤقتًا – لمحاولات اليمين المتطرف فى إسرائيل طمس فكرة حل الدولتين من الخطاب السياسى العالمي. القرار يعيد تثبيت الأسس التى ظلّ المجتمع الدولى يعتبرها مرجعًا للحل النهائي، ويمنح الفلسطينيين نافذة جديدة نحو تقرير المصير فى ظرف إقليمى ودولى بالغ التعقيد.
مثّل تمرير القرار صدمة فى صفوف اليمين الإسرائيلي، خاصة أنه يتضمن إمكانية الوصول إلى دولة فلسطينية مستقبلية بعد استكمال إصلاح السلطة الفلسطينية وإعادة إعمار غزة. هذه الإشارة، التى حاولت حكومة الاحتلال حذفها من النص قبل التصويت، لم تكن مجرد صياغة لغوية، بل كانت نقطة خلاف مركزية فجّرت غضب رموز اليمين المتطرف مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن جفير، اللذين صعّدا ضغوطهما على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فى محاولة لإفشال تمرير المشروع.
صحيفة «يديعوت أحرونوت، وصفت القرار بأنه «انتكاسة كبيرة لليمين المتطرف»، وهو توصيف يعكس حجم الارتباك داخل التيار الذى بنى مشروعه الأيديولوجى على رفض إقامة دولة فلسطينية وضم الضفة الغربية بالكامل إلى السيادة الإسرائيلية. هذا التيار رأى فى القرار الدولى تهديدًا مباشرًا لبنيته السياسية، لأن الاعتراف الدولى المتجدد بخيار الدولة يضعه فى مواجهة مع العالم وليس فقط مع خصومه الداخليين.
رغم أن نتنياهو وقادة الليكود لطالما روّجوا لمشاريع الضم والاستيطان، فإن رئيس وزراء الاحتلال وجد نفسه هذه المرة أمام معادلة أكثر تعقيدًا. فالإدارة الأمريكية، بوضوح غير مسبوق، أعلنت رفضها لأى خطوة لضم الضفة الغربية، وأكدت أن الفلسطينيين لن يُطردوا من غزة، وهى رسائل مباشرة تعكس أن واشنطن تريد ضبط السلوك الإسرائيلي، وتسهيل الطريق أمام إطار سياسى جديد فى المنطقة.
هذا التحول دفع نتنياهو إلى التراجع عن دعم مشروعى قانون فى الكنيست كانا يستهدفان تعزيز مسار الضم، وهو ما أثار غضب الحليفين المتطرفين سموتريتش وبن جفير، اللذين لم يترددا فى مهاجمته علنًا والتحريض عليه، بل وصل الأمر إلى دعوة بن جفير لاعتقال الرئيس الفلسطينى محمود عباس إذا اعترفت الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية. هذا الخطاب التصعيدي، الذى يتضمن تهديدات مباشرة ضد قادة السلطة الفلسطينية، يعكس حالة الارتباك داخل الائتلاف الحاكم أكثر مما يعكس خطة سياسية واضحة.
رغم الجدل الذى أحاط بمسار إعداد القرار، فإن بنوده جاءت متماسكة وتعكس توافقًا دوليًا على خطوط عامة للحل، يمكن تلخيصها فى ثلاثة محاور رئيسية:
أولًا: وقف شامل لإطلاق النار
يدعو القرار إلى وقف دائم وغير مشروط للأعمال القتالية فى غزة، بما يتيح دخول المساعدات الإنسانية وبدء إعادة الإعمار. هذه الصياغة تعنى أن المجتمع الدولى لم يعد يقبل باستمرار الحرب المفتوحة، وهو تطور يحمّل إسرائيل مسئولية أى تعطيل قد يحدث فى تنفيذ بنود الهدنة.
ثانيًا: تعزيز دور السلطة الفلسطينية
يعطى القرار دورًا مركزيًا للسلطة فى إدارة غزة بعد انتهاء العمليات العسكرية، عبر دعم «الإصلاحات الضرورية» وإعادة هيكلة الأجهزة المدنية والأمنية، بما يجعلها قادرة على إدارة القطاع وتقديم الخدمات. هذا البند يعد نقطة تحول مهمة، إذ يقطع الطريق على الأطروحات التى حاولت أطراف داخل إسرائيل تسويقها لفرض إدارة عسكرية أو مجتمعية بديلة للسلطة.
ثالثًا: فتح مسار سياسى جديد
يتضمن القرار العودة إلى «حل الدولتين» باعتباره الإطار الوحيد المقبول دوليًا لإنهاء الصراع، وهى الإشارة التى أثارت غضب اليمين الإسرائيلي، لأنها تؤكد أن المجتمع الدولى ما زال متمسكًا بإقامة دولة فلسطينية رغم كل المتغيرات على الأرض.
وجود هذه المحاور الثلاثة فى قرار واحد يضع الملف الفلسطينى مجددًا على طاولة التفاوض، ويمنح الفلسطينيين مظلة قانونية يمكن البناء عليها فى المحافل الدولية خلال المرحلة المقبلة.
كما أن أحد البنود اللافتة فى القرار هو الإشارة إلى إمكانية نشر قوة دولية فى غزة بعد وقف إطلاق النار، وهو ما بدأ يُتداول إعلاميًا تحت مسمى «مجلس السلام الدولي» أو «قوة الاستقرار». الفكرة لاتزال فى طور بلورتها، لكن وجودها فى نص القرار يعنى أن مجلس الأمن يريد آلية لضمان التنفيذ، وليس مجرد إعلان سياسي.الفكرة تتلخص فى تشكيل قوة متعددة الجنسيات تتولى ثلاثة أدوار وهى مراقبة وقف إطلاق النار ومنع تجدد العمليات العسكرية، وتأمين الممرات الإنسانية لضمان وصول المساعدات، وتهيئة البيئة اللازمة لعمل السلطة الفلسطينية فى القطاع.
هذا التوجه يثير اعتراضات إسرائيلية واسعة، لأن اليمين المتطرف يعتبر أى وجود دولى فى غزة خطوة قد تحد من حرية الجيش الاسرائيلى فى التحرك العسكرى لاحقًا. فى المقابل، ترى السلطة الفلسطينية أن وجود قوة دولية يضمن عدم تكرار سيناريوهات انهيار الهدنة، كما حدث فى جولات سابقة.
ورغم أن الولايات المتحدة قدّمت مشروع القرار، فإن دورها لم يكن تقليديًا هذه المرة. فالإدارة الأمريكية وجدت نفسها مضطرة لإعادة التوازن بين دعمها الأمنى لإسرائيل وبين الضغوط الدولية المتزايدة الناتجة عن الكارثة الإنسانية فى غزة. هذا ما يفسرلغة القرار الأكثر وضوحًا فى تقييد مشاريع الضم والاستيطان، الإشارات المتكررة لضرورة تمكين السلطة الفلسطينية والتأكيد الأمريكى المباشر على رفض تهجير الفلسطينيين، أو إبقاء غزة تحت الاحتلال العسكري.
إدارة واشنطن، التى تواجه ضغوطًا داخلية وخارجية، تبدو حريصة على إعادة ضبط علاقتها بالحكومة الإسرائيلية، خصوصًا فى ظل تصاعد انتقادات اليسار الأمريكى والجاليات اليهودية الليبرالية. لذلك فإن تمرير القرار ليس دعمًا خالصًا لإسرائيل ولا انحيازًا للفلسطينيين، بل خطوة لإعادة الولايات المتحدة إلى قلب العملية السياسية بدور أكثر ضبطًا وإدارةً للصراع.
يمثّل القرار إعادة إحياء للدور التقليدى لمجلس الأمن بعد سنوات من الشلل. إذ شهدت المرحلة الماضية تراجعًا ملحوظًا فى فاعلية المؤسسات الدولية بسبب انقسامات القوى الكبري. لكن الملف الفلسطينى أعاد جمع هذه القوى حول نقاط اتفاق محددة، أبرزها:وقف الحرب كشرط أساسى لأى تقدم سياسى وتمكين السلطة الفلسطينية باعتبارها الجهة المعترف بها دوليًا لإدارة الأراضى الفلسطينية ورفض نهائى لخطط الضم الإسرائيلية وإعادة وضع «حلّ الدولتين» كصيغة مرجعية تحظى بإجماع دولي.
ويشكل القرار اختبارًا حقيقيًا للحكومة الإسرائيلية، التى تواجه انقسامًا داخليًا عميقًا، وتراجعًا فى الدعم الدولي، وضغوطًا عسكرية وسياسية متزايدة. اليمين المتطرف سيسعى لإفشال القرار أو الالتفاف عليه، لأنه يدرك أن تنفيذه يعنى تراجع مشروعه الأيديولوجى القائم على الضم ورفض الدولة الفلسطينية.
فى المقابل، يفتح القرار نافذة جديدة أمام الفلسطينيين لاستعادة المبادرة السياسية، إذا استطاعت السلطة الفلسطينية تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، وتقديم نموذج حكم قادر على إدارة غزة والضفة بطريقة أكثر فاعلية.أما المجتمع الدولي، فيبدو أنه لن يقبل بعودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الحرب. فهناك إدراك عالمى بأن استمرار الصراع دون حل سياسى أصبح غير ممكن، وأن أى خطة لإعادة الإعمار يجب أن تترافق مع مسار سياسى واضح المعالم.
فى النهاية، يمكن القول إن القرار ليس حلًا نهائيًا، لكنه خطوة تأسيسية قد تعيد رسم مستقبل الصراع، وتضع الجميع أمام مسئولياتهم.. مدى نجاحه سيعتمد على قدرة الأطراف المعنية – فلسطينيًا وإسرائيليًا ودوليًا – على التعامل معه كفرصة نادرة وليست مجرد وثيقة جديدة تضاف إلى أرشيف الأمم المتحدة.









