بقلم : حلمى النمنم
تعرضت الأسبوع الماضى رئيسة المكسيك « كلوديا شنباوم» لمحاولة تحرش فى الشارع، وكانت السيدة الرئيسة فى طريقها من القصر الوطنى نحو وزارة التعليم، والمسافة قصيرة، وقررت أن تقطعها سيرًا على الأقدام، فى هذه المسافة كان هناك تجمع للمواطنين، راحت تشاركهم، فجأة اندفع نحوها شخص حاول التحرش بها ، استندت السيدة على أخرى كانت بجوارها، فوجئت بما حدث وبدا الذعر فى عينيها، ثم لحق بها رجال الأمن وأبعدوه عنها، وتقدمت السيدة ببلاغ، على الفور راحت الشرطة المتخصصة فى الجرائم الجنسية تحقق معه.
«كلوديا»، قالت فور تعرضها للحادث «إذا كان ذلك يحدث مع رئيسة البلاد فماذا يحدث مع بقية الفتيات فى البلاد؟»، وهو تساؤل ضرورى كما ترى، وقالت أيضا إن الحادث الذى تعرضت له لن يمنعها عن مواصلة التحرك فى الشارع بين المواطنين «يجب أن نكون قريبين من الناس»، لكن هل ستظل وسط الناس دون احاطة طاقم الامن بها؟
ومنذ عشر سنوات، حين كانت هناك عملية تشويه منظمة للمصريين، من منظمات مشبوهة أشاعوا أن الشارع المصرى هو الثالث عالميًا فى التحرش، وثبت كذب ذلك الادعاء وتبين لنا أن عناصر الجماعة الإرهابية المستريحين فى لندن كانوا وراء ذلك الزعم فى موجة تحريض دولية ضد مصر والمصريين، جريمة التحرش بالسيدة رئيسة المكسيك تطلعنا على مستوى من التحرش لم يداعب خيال أى مؤلف خاصة أن المتحرش هنا، وثبت ان له سجلًا فى هذه النوعية من الجرائم، يحترف التحرش.
ورغم أن الواقعة شاهدها الملايين حول العالم، وظلت خبرا أولا فى عديد من وكالات الانباء، إلا أن بعض المعلقين فى المكسيك انتقدوا التركيز على الحادث واعتبروا أن الجهات الرسمية فى بلادهم ضخمت فى الحادث لإلهاء مواطنى المكسيك عن المشاكل الكبرى التى تحيط بهم، وفشل الدولة فى التعامل معها، مثل اتساع نطاق الجريمة فى البلاد، وهكذا يبدو أن حزب الإلهاء أو كما يسميه البعض «بص العصفورة»، موجود فى كل مكان، حتى فى امريكا اللاتينية وليس فى بلادنا فقط.
بعيدًا عن مسألة التحرش، فان المسئول بين أمرين.
الأول: تفرضه التقاليد الديمقراطية والشعوبية، أن يكون قريبًا من الناس، وسطهم، وألا تكون الاجراءات الامنية مكشوفة.
الثانى: أن ذلك قد يعرضه الى مخاطر شتى، يمكن أن تهدد حياته أو تهز هيبته.
«شنزو آبى» رئيس وزراء اليابان الأسبق، كان فى الشارع بمدينة صغيرة فى اليابان، فى الثامن من يونيو سنة 2022، يتحدث فى تجمع حزبى، قتل رميا بالرصاص، وهو واقف، مندمج فى الحديث ربما لم يخطر فى باله ان يكون ثمة خطر على حياته فى ذلك الموقع، لعل أشد خطر توقعه أن يجادله أو يعترض على حديثه احد المواطنين، وأعداد الرؤساء والشخصيات العامة الذين اغتيلوا أو تعرضوا للاغتيال كثر حول العالم، والولايات المتحدة الأمريكية صاحبة النصيب الأبرز فى ذلك، اغتيال الرئيس كينيدى ومحاولة اغتيال الرئيس رونالد ريجان، وكذلك محاولة اغتيال الرئيس بوش الأب فى أثناء زيارته للكويت بعد تحريرها، ونسبت المحاولة الى الرئيس العراقى صدام حسين وانتقم منه الرئيس بوش الابن وتابعنا العام الماضى محاولة اغتيال دونالد ترامب، وعلى مستوى السيدات اغتيلت رئيسة وزراء الهند انديرا غاندى سنة 1984، كما اغتيلت رئيسة وزراء باكستان العظيمة بناظير بوتو، وهذه الجرائم كلها ارتكبت بينما كان كل مسئول يحاول ان يتواجد بين الناس وقريبًا منهم، والواقع أن وجود المسئول بين المواطنين كان عاديًا فى البداية، لكن ظهور المخاطر من جراء ذلك والتهديدات هو الذى فرض الحواجز بين المسئول وعموم المواطنين.
فى التاريخ العربى والاسلامى، كان الخليفة يتحرك بين الناس ويلتقيهم باستمرار، يرونه فى السوق وفى الصلاة يوميًا، حتى وقعت عملية طعن الخليفة الثانى عمر بن الخطاب وهو يؤدى الصلاة، على النحو المعروف تاريخيا، ثم تكرر الأمر مع خلاف فى التفاصيل مع أمير المؤمنين معاوية بن ابى سفيان، وأمكن مداواة معاوية- رضى الله عنه- من هنا نشأت فكرة المقصورة فى المسجد لتفرض حاجزا ما، لحظة اداء الصلاة بين أمير المؤمنين وجموع المصلين، تحسبا أن يندس بينهم من يستهدف أمير المؤمنين بشر.
فى التاريخ الانسانى تكررت مواقف، حتى أطل العصر الحديث بأفكاره المختلفة، وترتب على الروح العصرية، أن تزول الحواجز بين المسئول الاول وعموم المواطنين، وعلى الفريق الأمنى المحيط بالمسئول أن يتدبر الأمر على هذا النحو.
فى ذلك المناخ تراجعت الاجراءات الامنية، حتى الان يصاب البعض بالذهول من أن الرئيس جمال عبد الناصر، كان يركب سيارة مكشوفة تمر وسط المواطنين وهو يحييهم بيديه، بلا خوف وبلا قلق، وسار فى شوارع الجزائر بعد الاستقلال وسط الناس وكذا فى دمشق، الرئيس الأمريكى جون كيندى كان فى سيارة مكشوفة يوم أن تعرض للاغتيال، فكان ان اشتدت المسافة بين الجمهورية والرجل الأول، ليس فى الولايات المتحدة فقط، بل حول العالم.
الاعتداء على المسئول، قدلا يكون مقصودا به الاغتيال، بل الإحراج وكسر الهيبة، المسئول هيبة فى المقام الأول، حاجز غير مرئى من الإكبار والتقدير، مصحوبين بالمحبة، إذا كسر هذا الحاجز يفتقد المسئول الكثير من مكانته وقد يصبح مستعدا للانسحاب من المشهد العام، بعض حركات المعارضة تفعل ذلك عمدًا، لدفع المسئول نحو خطوة لم يكن يريدها ولا كان ممكنا الإقدام عليها فى الظروف العادية.
ما جرى مع الرئيسة المكسيكية، يمكن ان يندرج فى هذا الإطار والواضح ان بعض المعارضين لها أرادوا وضع واقعة التحرش فى إطار اهتزاز الهيبة، وفى التاريخ السياسى المصرى الكثير من ذلك.
الزعيم مصطفى النحاس كان يحرص على أداء صلاة الجمعة كل أسبوع فى أحد المساجد الكبرى وكانت الإذاعة المصرية تنقل لحظات وصوله الى المسجد ثم المغادرة وسط تهليل المحبين والمريدين، وكان ذلك يثير حفيظة خصومه، ثم أثار حفيظة بعض المسئولين فى الديوان الملكى، خاصة ان الملك فاروق كان يؤدى صلاة الجمعة ولا يحظى بذلك الاهتمام من الاذاعة ولا من الصحافة.
وفى سنة 1938، أقال الملك فاروق النحاس وحكومته، لكن الزعيم واظب أكثر على صلاة الجمعة وراح الوفد يحولها الى مناسبة للاحتفاء بالزعيم، فيما يبدو انه رد على قرار الاقالة.
وفى يوم الجمعة ذهب الزعيم إلى مسجد السيدة عائشة لأداءالصلاة، ثم وقف إمام المسجد يصافح الجماهير بعد الانتهاء من الصلاة، فتقدم منه شاب أسمر طويل القامة، مد له الزعيم يد المصافحة، لكن الشاب رفع يده محاولاً صفع الزعيم، حال المحيطين بالزعيم دون وصول الصفعة، حاول الشاب الهرب، صاح مصطفى النحاس «امسكوه.. ابن الكلب»، وذهب الزعيم إلى القسم ليحرر محضرا بالواقعة متهما الشاب، الذى تم الإمساك به.
وهنا قامت الدنيا فى بعض الصحف.. كيف يسب الزعيم شابا ويقول عنه»ابن الكلب»، الاستاذ العقاد بجلال قدره كتب مقالاً فى الهجوم على مصطفى النحاس (باشًا)، كيف له ان يمسك «شابًا وطنيا متحمسا «ويقتاده الى قسم البوليس، نالت الصحف من الزعيم كثيرا.
مرت الواقعة ونسى امر ذلك الشاب، قيل انه كان عضوا فى الحزب الوطنى وكان ساخطا بسبب معاهدة سنة 1936، التى وقعها النحاس وهاجمها بضراوة العقاد، وقيل ان الشاب كان مدفوعا من الدائرة المقربة من الملك فاروق، فى الحرب الباردة بين النحاس وقصر عابدين.
ويبدو ان النحاس الذى تعرض لعدة محاولات اغتيال، كان موعودا بمحاولات الإحراج، ذات صيف كان فى رأس البر وذهب لصلاة الجمعة، حاول-مازحًا-ان يصطحب معه مكرم عبيد، والاخير يريده ان يكتفى بصلاة الظهر، حتى لا يذهب الى المسجد البعيد، المهم ادى الصلاة فى المسجد ثم خرج ولم يجد الحذاء، فطلب السيارة قريبا من المسجد وسار عدة خطوات حافيا، حتى وصل إلى باب السيارة، وكان الامر موضع التفكه والتندر.
على غير ماتوقع البعض فان هذه المواقف زادت من محبة الجماهير له.
الغريب ان الملك فاروق تعرض هو الآخر لعمليات كسر الهيبة من أطراف عديدة، وقد نجحت هذه العمليات وكسرته هو من داخله، لذا كان مستعدا للانسحاب وفعلها عند أول طلب بذلك يوم 26 يوليو سنة 52.
كانت المحاولة الاكثر تأثيراعليه قام بها السفير البريطانى فى مصر مايلز لامبسون يوم ٤ فبراير سنة 42، لكن كسر الهيبة الاشد وقع للملك من الشائعات التى ملأت الدنيا عن فساد الملك، مثل انه لم يكن يفارق الخمر، وكان ذلك محض كذب، لم يشرب الخمر قط ومثل انه زير نساء ولم يكن صحيحا، هو ملك تندفع نحوه الجميلات فى الحفلات العامة، لكن ليس أكثر من هذا، التفاصيل هنا كثيرة.
وهناك شائعات الفساد المالى، خاصة حكاية رشوة عبود باشًا فى سنة 52، لإقالة وزارة الهلالى باشا وكانت شائعة لا ظل لها من الحقيقة، التفاصيل هنا كثيرة جدا.
المهم أن الشائعات نجحت فى كسر هيبة الملك، بل النظام الملكى كله حتى أن الملك نفسه قال فى اجتماع رسمى «هذا البلد يتجه حتما نحو الجمهورية».
>>>
الشائعات وكسر الهيبة معنويا بمختلف الأساليب والأدوات مورست مع الرئيس السادات كثيرا وطويلا، كانت النتيجة أن فقد أعصابه وراح يهاجم الجميع، ثم أقدم على خطوة انتحارية فى قرارات سبتمبر سنة 1981، وقد تعرضت مصر منذ ثورة 30 من يونيه لآلاف الشائعات، بل مئات الآلاف، أطنان من الشائعات والاكاذيب لكسر هيبة مؤسسات الدولة كلها، وتشويه رموز الامة المصرية والشخصيات العامة، ومع السابع من أكتوبر سنة 23، تحولت الشائعات إلى محاولة تحريض وحرب نفسية على الشعب المصرى وعلى الدولة والرئيس شخصيًا.
لكن الدولة تتعامل مع هذه المؤامرة بحرفية شديدة، تفضح كذب هذه الشائعات ومَنْ وراءها وتحمى مؤسسات الدولة من تأثيراتها السلبية.
اليوم ومع سيل الفضائح التى تنهمر من معسكر الفضائح، تتضح الأمور أكثر، خناقات عن سرقة نصف مليار دولار من التبرعات لغزة وعن سحب التمويل عن أهل غزة وإنفاقها على محاولة خلخلة الأمور فى مصر عبر أكذوبة قافلة الصمود بريا، هنا نكتشف ان من يفشل فى الاغتيال الجسدى يذهب الى عملية كسر هيبة الدولة ورموزها بالشائعات والاكاذيب.
الشائعات هى جانب من محاولة كسر الهيبة تمهيدا لكسر وتدمير كل شىء فى الدولة، نحن فى مصر نعرف ذلك جيدا وعانينا منه طويلا.
حمى الله مصر والمصريين.









