الشعور بالظلم واحد من أقسى التجارب التى يمكن أن يمرّ بها الإنسان. فالظلم لا يجرح الجسد، بل يستوطن الروح، ويترك فيها ندوبًا لا تُمحى بسهولة. عندما يشعر الإنسان بأن حقه قد سُلب، أو أن ميزان العدل قد انحاز إلى غير الحق، تنطفئ داخله الكثير من القيم التى تقوم عليها الحياة الإنسانية السوية: الشعور بالانتماء، الثقة فى الغد، والإيمان بأن العالم محكوم بقواعد يمكن التنبؤ بها. أكثر من ذلك، فإن القهر «ذلك الإحساس الحارق بالعجز أمام سلطة أو قرار» هو السم البطيء الذى يتسلل إلى القلب حتى يغتال الروح ويحوّل الإنسان إلى كيان منطفئ، فاقد للأمل والقدرة على العطاء.
>>>
لهذا السبب كان العدل منذ فجر التاريخ هو أساس الحكم الصالح، وهو المعيار الذى يُقاس به نجاح الحكّام وفشلهم. فالحاكم العادل هو الذى يدرك أنّ مسئوليته الأولى هى حماية الناس من الظلم، ورد المظالم إلى أهلها، وأنّ أى خلل فى ميزان العدل كفيل بأن يهدم الدول مهما بلغت قوتها العسكرية أو الاقتصادية، الحاكم العادل لا يقبل أن يقع ظلمٌ على أحد من رعيته، ولا يسمح بأن يتسرّب شعور القهر إلى صدور الناس. وهو، قبل كل شيء، يضع مخافة الله نصب عينيه، لأنّ الحكم تكليف وليس تشريفًا، وأمانة وليست امتيازًا.
>>>
الحاكم القوى حقًّا، هو الذى يواجه الأخطاء لا الذى يتغاضى عنها. القوة ليست فى البطش، بل فى القدرة على الاعتراف بالخطأ وتصويبه، على محاسبة المقصّر أيًا كان موقعه، وعلى الوقوف إلى جانب الحق مهما كانت الكلفة السياسية أو الإعلامية. فالدولة التى لا تُصلح أخطاءها، تدفع ثمنها مضاعفًا. والدولة التى تخشى مواجهة أصحاب النفوذ، تفقد احترام الناس وثقتهم.
>>>
فى هذا السياق، جاء موقف الرئيس عبدالفتاح السيسى «كما عبّر عنه بيانه الأخير المتعلق بملف الانتخابات» ليحمل دلالة مهمة. حين دعا «جهة الاختصاص» إلى مخافة الله وإحقاق الحق والانتصار لإرادة الناس، كان يوجّه رسالة واضحة بأنّ إرادة الأمة هى السقف الأعلي، وأنّ أى شبهة ظلم أو تجاوز لا ينبغى السكوت عنها. هذا الموقف، سواء اتفق الناس أو اختلفوا حول تفاصيله، يعكس إدراكًا بأنّ قوة الدولة لا تعنى غياب الخطأ، وأنّ العدالة هى حائط الصد الأول ضد الفتن والاضطرابات.
>>>
ولا شك أنّ الذاكرة المصرية تستدعى تلقائيًا ما قاله الرئيس الراحل محمد حسنى مبارك «رحمه الله» فى حادثة مشابهة حين قال عبارته الشهيرة: «خليهم يتسلّوا». تلك الجملة لم تكن مجرد رد عابر، بل أصبحت رمزًا لمرحلة كاملة من الاستهانة بالمطالب الشعبية، وأسهمت « كما يرى كثيرون « فى تسريع الأحداث التى انتهت بما انتهت إليه. لم يكن الظرف مشابهًا تمامًا، ولا كانت الدولة فى الوضع ذاته، لكن النبرة التى يصل فيها الحاكم إلى الناس هى ما يصنع الفارق بين الثقة والغضب، وبين الإصلاح والانفجار.
>>>
أما اليوم، فالدولة المصرية تقف على أرض أكثر صلابة، لكنها فى الوقت نفسه أكثر وعيًا بحساسية الظرف. قوة الدولة لا تعنى أنها «ليست ظالمة»، بل تعنى أنها قادرة على تصويب أخطائها إذا وقعت، وقادرة على حماية مسيرة الاستقرار دون أن تتجاهل أصوات الناس. الدولة القوية ليست تلك التى لا تسمح بالاعتراض، بل التى تسمح به وتستفيد منه. الدولة العادلة ليست التى تخلو من الأخطاء، بل التى لا تتسامح مع الخطأ حين يظهر.
>>>
لقد كان البيان الأخير رسالة بأنّ العدل ضرورة وليست خيارًا، وأنّ إرادة الأمة لا تعلو عليها إرادة أخري، وأنّ الدولة القوية هى التى تتقى الله وتحاسب نفسها قبل أن يحاسبها الناس. وفى زمن تتشابك فيه الأزمات وتتداخل فيه المصالح وتكثر فيه الإشاعات، يبقى العدل هو البوصلة التى تمنع السفينة من الانحراف مهما كانت العواصف.
>>>
«لا ظلم اليوم» ليست مجرد عبارة؛ إنها منهج حكم، وقاعدة حكماء، وسر بقاء الدول واستقرار الشعوب.









