>> اتخذت القرار وبدأت حلمى مبكراً: كنت طالباً فى الصف الثانى الثانوي- أدبى -عندما اكتشفت عشقى للصحافة وتقدمت لمسابقة لصحف الحائط أعلن عنها سعادة الناظر الجديد «وبالمناسبة هو أستاذ معروف بكتاب شهير لتعليم اللغة الإنجليزية»
حرصت على أن انتج صحيفة حائط غير تقليدية، بالفطرة قلدت الصفحة الأولى لصحيفة الأخبار اليومية وأفردت ما ظننته أخبارا تهم الطلاب والمدرسين.. توجتها بمانشيت ما زلت اتذكره حتى الآن «حضرة الناظر يركب الدرجة الثالثــة! باســتطاعتك أن تتســاوى معــه إذا كان معــك 5 مليمات قيمة التذكرة!!»
فى الصباح التالى فوجئت بمحكمة منصوبة فى طابور الصباح وأنا المتهم المقصود، صعدوا بى إلى منصة الخطابة حيث نلت أكثر مما أتمنى من الكلمات الغاضبة وعلقة ساخنة على قدمى: 100 خيرزانة بالتمام والكمال وأنا صامد لم أصرخ صرخة واحدة.
>> انتهت المحاكمة بطردى من المدرسة لحين احضار ولى أمرى وعلمت أن أحد المدرسين حرض الناظر على مجلتى وشخصى الضعيف، وأوهمه أنها مجلة جميلة تستحق الجائزة فحدث ما كان!
>> ازعجنى فى الحكاية أننى لن استطيع ان أحكيها لوالدى المدرس بالأزهر لأنه سيضاعف على الجزاء بكل تأكيد: الصبر كان الحل ولكن القلق الشديد والخوف من قرب امتحانات آخر العام جعلنى أغامر متسللاً إلى المدرسة من باب جانبى حيث ألقى على القبض الحارس عم بشير- النوبى الجميل – وأخذنى إلى حضرة الناظر من الدار إلى النار!!
>> فوجئت بشخص آخر غير الذى وجه إلى الضربات والكلمات: بهدوء شديد طلب منى الجلوس على مقعد بجواره، وأفهمنى بأنه لم يستطع النوم منذ أن عاد إلى منزله وفكر فى الأمر بموضوعية وغلب حسن النية، فى اليوم التالى أشرف بنفسه على لجنة الفحص للمجلات المتقدمة للمسابقة ووجد أننى صنعت الأفضل وقرر منحى الجائزة «5 جنيهات كاملة وكانت تعد ثروة فى تلك الأيام» ومعها هدية الكتاب الخاص بالصف الثانى الثانوى وترضية أدبية رائعة نصحنى فى آخرها أن أستجيب للحلم وأبدأ فى اتخاذ الخطوات العملية.
>> حتى لا أطيل عليكم: نجحت فى الثانوية العامة والتحقت فى قسم الصحافة بجامعة القاهرة: صبيا على مشارف الشباب..عمره فقط 15 سنة، أثار وجودى فى رحاب الجامعة الدهشة والاستفسارات ممزوجة بالمعاكسات، إلى أن وصل الخبر إلى المرحوم سعيد صادق الصحفى بالجمهورية فأخذنى فى سيارته الحمراء إلى مبنى الجريدة القديم بشارع زكريا أحمد وأدخلنى فوراً إلى رئيس التحرير: الصحفى العملاق الأستاذ جلال الحمامصى الذى حاورنى فى الصحافة والسياسة والأدب، كلفه ذلك نصف ساعة تقريباً من وقته الثمين، بعدها عرض على التدريب فى الجمهورية.. كان ذلك فى يوم 13 نوفمبر 1958 ومن يومها أصبحت الجمهورية بيتى الأول.. لم أغادرها إلا مرتين: الأولى فى بعثة تدريبية إلى كلية الصحافة ببرلين الشرقية وبعدها كنت أول مراسل للجمهورية فى ألمانيا الديمقراطية، والمرة الثانية كانت فى أكتوبر 1972 مرافقاً لزوجتى الغالية -رحمها الله- عملت هى كمدرسة فى رابغ بينما كنت انحت الصخر لمدة قاربت على العام، متردداً على جدة، لأحصل أخيراً على فرصة عمل مخرجاً فنياً لصحيفة عكاظ وبعدها انتقلت إلى مؤسسة تهامة للإعلان والعلاقات العامة والدراسات التسويقية- أكبر مؤسسة من نوعها فى المنطقة- وهناك انشأت القسم الصحفى بإدارة العلاقات العامة، ليقوم بخدمة المصالح والهيئات ورجال الأعمال إعلامياً وصحفياً والحمد لله نجحت التجربة وعلمت العديد من الشباب السعودى والمصرى والسودانى فى هذا المجال.. مستحضراً كقاعدة.. دراستى لفن العلاقات العامة فى الجامعة على يد الأستاذ الراحل الدكتور إبراهيم إمام.
>> عدت بعد 12 عاماً تقريباً إلى أحضان الوطن.. عازماً على أن استرد مكانتى المستحقة فى بيتى الجمهورية مستكملا رحلة الكفاح والصعود فى سلم صاحبة الجلالة حيث غادرتها من قبل نائباً لرئيس قسم التحقيقات الصحفية «معلمى المرحوم الأستاذ وحيد غازى» وكنت وقتها أصغر من تولى هذه المسئولية.
>> تسلمت عملى وكان راتبى لا يتجاوز 400 جنيه شهرياً وعندى من الأولاد 4 بمراحل التعليم المختلفة.. دعمتنى شريكة الحياة وطلبت منى أن اتفرغ للعمل بكل طاقتى، تاركا لها الحمل الشاق مسئولية البيت والأولاد وبالفعل ساعدنى الصديق المرحوم جلال العريان وساعدنى الأستاذ محفوظ الأنصارى رئيس التحرير لأتولى رئاسة قسم التحقيقات الشاغرة وأكرمنى الله سبحانه وتعالى بفكرة جديدة ملهمة وهى صفحة «رمضان والناس» التى تعتمد على التعامل مع الشهر الكريم كضيف عزيز مؤثر فى حياة الصغير والكبير.. الغنى قبل الفقير.. نجحت الصفحة نجاحا قياسيا وأشاد بها الزملاء فى الصحف المنافسة واتصل بى أستاذى المرحوم عبد الوارث الدسوقى -نائب رئيس التحرير فى أخبار اليوم- مهنئا تلميذه بهذا النجاح الباهر.
>> بعدها -بفضل الله – نجحت فى استعادة الصفحة الثالثة موقعا ومساحة للتحقيقات الصحفية ورفعت راية الصحافة والحب والود إلى من يرغب فى العمل بالقسم من الزملاء وطلبت من رئيس التحرير أن يحملنى مسئولية تدريب الشباب الواعد معى وقد كان ويتواصل النجاح الأدبى بالدرجة التى لا تجعلنى أفكر فى أى مقابل مادى بل استعدت لياقتى المهنية وعملت – بجانب التحقيقات- فى الديسك المركزى -المحراب المسئول عن إصدار الجريدة.. اكتسبت الخبرة بسرعة ورشحت للعمل كنائب رئيس التحرير التنفيذى مسئولاً عن خروج الجريــدة إلى النــور بطبعاتها الثــلاث وأحياناً الأربعة أو الخمس.. بتوجيهات الأستاذ سمير رجب رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير الأسبق -بارك الله فى صحته- وتلقيت فى هذه الأثناء مكافأة معنوية لا تقدر بثمن حيث كلفت بكتابة مقال أسبوعى فى صفحة الرأى، بعد رحيل الأستاذ حافظ محمود -القدوة والقامة-عن عالمنا.
>> تواصلت الرحلة لأصبح أول من اختير فى قائمة النائب الأول لرئيس التحرير وعندما بلغت سن المعاش أو التقاعد ..لم أشعر أبداً بالرغبة فى الرحيل..واصلت العمل فى الديسك.. سعيداً تحت رئاسة الأجيال الجديدة..
>> وخرجت من رحلة الكفاح بتجربة صحفية غير مسبوقة تمثلت بمشاركتى فى مجلة حريتى الغراء.. معداً للتقرير الأسبوعى الناقد للعدد ومحرراً لباب «زميلى القارئ.. محرر حريتى»الذى امتد بفعل النجاح إلى 4 صفحات كاملة وصداقات عديدة من الإسكندرية إلى أسوان.. ما زال منهم من يتواصلون معى من الأصدقاء حتى الآن.
>> اليوم وأنا أنظر إلى هذه الرحلة وأستغرب كيف لم أحصل على استراحة محارب فى العمر الثالث، ولكنى وأنا أكتب هذا الكلام تأملت المشوار وخرجت بحقيقة جديدة.. مفرحة ورائعة.. أننى بحمد الله ورغم تأكدى بقرب الرحيل إلا أن الله – سبحانه وتعالى – أنعم على بفيض من الإبداع المتنوع كما تلمسون يا أصدقائى: سواء فى مقالاتى الأسبوعية فى الجمهورية وحريتى وعقيدتى وكذلك الذكريات التى تخرج تباعا من العقل إلى القلم مباشرة ..تلتزم بالموضوعية وتختار ما يحقق الفائدة.
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً









