ما دعا إليه البعض من زيارة الآثار بالجلباب ردًا على من سخر من الجلباب وغير ذلك من السلوكيات التى تعلى من قيمة الجلباب يوقفنا على غريزة بشرية تظهر عندما يتجاوز سلوك ما الحد الاقصى منه وهى التطرف الذى يظهر عادة مقابل تطرف مضاد والتاريخ البشرى على امتداده امتلأ بنماذج من هذه السلوكيات التلقائية فمن يبحث عن ظهور الزهد والتقشف فى المجتمع الإسلامى يجده رد فعل لحالة ترف اجتاحت هذا المجتمع، فقد ظهر الزهد والتصوف فى الدولة العباسية نتيجة تطرف فى الرفاهية اجتاحت الدولة إلى درجة الانحلال بل الشذوذ فى سلوكيات معينة وكذلك ظهرت الشيوعية المنظمة رد فعل للرأسمالية المتوحشة وفى مجتمعاتنا العربية ظهر التشدد نتيجة انتشار الأفكار التحررية من قواعد الدين وظهرت دول تعلن عداءها للدين والتحلل منه حتى صـار الحديث عن الدين باعتباره مرحلة تاريخيـة أو موضة قديمة تجاوزتها البشرية . ومن يبحث فى فكرة النقاب والدعوة عليه يجدها ردة فعل لحالة من التحلل من الحشـمة التى حــددها الديــن بــزى لا يصــف ولا يشف مع ظهور الوجه والكفين.
لذا فإن الدين الحنيف قام على الوسطية التى يقبلها الأسوياء من البشر فلا تطرف فى سلوك فى مقابل سلوك مضاد، بل إن القرآن يصف الأمة الإسلامية بأنها أمة وسط «وكذلك جعلناكم أمة وسطا» وكذلك اللغة جعلت الأوسط بمعنى الأعقل «لأنه يوازن بين الصواب ولا يتطرف فيه» قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون» كذلك دعا القرآن الكريم المؤمنين به الى التوسط فى كل شىء حتى فى الكرم: «وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا»، كما أوصى لقمان الحكيم ابنه كما حكى القرآن الكريم أيضًا فقال: «وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ».
كما قال حكماء العرب قبل نزول القرآن الكريم: « حب التناهى شطط وخير الأمور الوسط».
بل حذر النبى صلوات الله وسلامه عليه من المغالاة فى العبادة فقال: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله، فإن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى».
وعندما أراد الفلاسفة تعريف الفضيلة قالوا: هى وسط بين رذيلتين وشرحوا ذلك بأن الكرم وسط بين البخل والإسراف فالبخل رذيلة وكذلك الاسراف.. ومن يتابع التحولات فى الرؤى للشعوب الغربية لقضايا معينة يجدها نتيجة لانحراف شديد على الجهة الأخرى كالنظرة الى القضية الفلسطينية بعدالة فقد جاءت نتيجة الفظائع التى ارتكبت ونتيجة موقف الحكومات المنحرف لصالح المعتدين فضلا عن وسائل الإيضاح الحديثة وكذلك من يتابع نجاح دعاة الاشتراكية فى أمريكا يجدها نتيجة رأسمالية متوحشة ضجت منها ظهور الفقراء وهكذا .
إذن التطرف ابن تطرف مقابل والاعتداء يغرى باعتداء مقابل والعنف ابن ظلم وتعنت.. وعلى المجتمعات أن تحارب كل شر بالاعتدال الذى يولد الرضى ولا يحدث ذلك إلا بثقافة مؤسسية تبدأ بالتاريخ مرورا بالقيم الصانعة للمجتمعات السوية فستنير العقول وتستقيم النفوس على وسطية مانعة.









