لأن الكاتب هو ابنُ السؤال لا ابنُ الإجابة، ومن يمتلك القدرة على طرح الأسئلة فى توقيتاتها الصحيحة وبمضامينها الأعمق، هو الأقرب إلى اقتناص إجابات مختلفة عمّا هو مألوف. فالإجابات النمطية لا تغيّر واقعًا، والإجابات الثرية لا تولد إلا من أسئلة أكثر ثراء. ومن هنا وددت أن أطرح سؤالاً بسيطًا حول أسباب حالة فقدان الشغف العام.
>>>
إذ يفقد المرء أحيانًا شغفه بالمشاركة فى كل ما هو عام، فيتراجع حماسه تجاه قضايا شديدة السخونة، وكأن روحه بردت فجأة. فما الأسباب؟ وما الذى يدفع البعض إلى الانضمام إلى «الحزب المليشى المصرى العتيق»، ذلك الحزب الذى يرفع أعضاؤه شعار «مليش دعوة» و«أنا مالى»؟
كنتُ دائمًا أرى أن الكتابة والقلم والورق هى أدوات مقاومة اليأس والاحباط وبرودة الروح. غير أن السؤال الملحّ الآن: لماذا يشعر الكاتب اليوم بأن ما يكتبه لا قيمة له؟
>>>
كيف يشعر الكاتب بأنه متَّهَم فى مجتمع يعاتب من يفكر، ويفضح من يُضبط متلبسًا بجريمة الوعي؟
ويلٌ لهؤلاء الذين يبدعون وسط بيئة باتت تقدّس الرداءة، وتصنع من الفراغ قيمة، وتتودد إلى عديمى الكفاءة، بينما تُطارد كل محاولة لفرز الجيّد من الرديء.
ويلٌ لمن يواجهون هذا القبح بالكلمة، بينما المخلصون محاصرون بخوفٍ دائم من إساءة فهم الحمقى لهم. وربما جاء زمنٌ يُمنَع فيه الأذكياء من التفكير حتى لا يسيئوا للأغبياء.
>>>
وليس سرًا أن الكتابة كانت دائمًا منفذًا للنجاة من الاحباط، ووسيلة لترميم الروح حين يثقلها العالم بتفاصيله. لكن المفارقة أن الكاتب نفسه قد يقع فى فخ الاحباط، وأن القلم الذى يقاوم به انكساراته قد يتحول يومًا إلى عبء يثقله، فيشعر أنه عاجز عن الكتابة.
فهل يفقد الكاتب شغفه حقًا؟ ومتى يحدث ذلك؟ وهل يُعدّ فقدان الشغف إفلاسًا إبداعيًا، أم هو مجرد انعكاس لحالة إحباط عابرة؟
>>>
يحدث فقدان الشغف عندما تتزاحم الأسئلة على الكاتب أكثر مما تتزاحم الأفكار. حين يضع قلمه أمامه ولا يجد ما يكتبه، لا لأن الأفكار غابت، بل لأن حرارتها انطفأت. الشغف لا يختفى دفعة واحدة؛ إنه يبهت تدريجيًا، كما تنطفئ شعلة تُركت طويلاً فى مهب الريح دون أن تمتد إليها يد. فالكلمات بحاجة إلى حرارة الروح، فإذا بردت الروح، بردت اللغة معها.
>>>
ويبقى السؤال الأهم: كيف يُصاب بالاحباط من يستخدم الكتابة نفسها لمواجهة الاحباط؟
هنا تكمن المفارقة. فالكتابة علاج، لكنها ليست علاجًا مطلقًا. هى فعل مقاومة يحتاج طاقة كى يعمل. فإذا استُنزفت هذه الطاقة، فقدت الكتابة دورها العلاجى.
تمامًا كما يحتاج الطبيب إلى من يداويه، يحتاج الكاتب إلى معنى يعيد تشغيل الإلهام، إلى سبب للكتابة يتجاوز مجرد الاعتياد على الكتابة نفسها.
>>>
أخطر ما قد يتعرض له الكاتب ليس العجز المؤقت عن الكتابة، فذلك طبيعى، بل الأخطر هو الشعور بأن كتاباته لا تغيّر شيئًا، وأن صوته لا يصل، وأن المجتمع يتحرك ببطء يبتلع كل محاولة للتنوير. هذا الإحساس يضرب أساس الإيمان الذى تقوم عليه الكتابة: الإيمان بأن للكلمة وزنًا، وأن للنص قدرة «ولو محدودة» على فتح نافذة فى جدار مغلق.
>>>
لذلك فإن فقدان الشغف ليس إعلان انسحاب، بل دعوة إلى إعادة النظر. الكاتب حين يفقد شغفه لا يتوقف عن كونه كاتبًا؛ هو فقط يتوقف ليستعيد صوته. ليعيد التمييز بين ما يكتبه لأنه يريد تغييرًا سريعًا، وبين ما يكتبه لأنه يؤمن بقيمة الكتابة نفسها مهما تأخرت النتائج.
هنا يعود الكاتب إلى الأصل: إلى لحظة البدايات، حين كانت الفكرة أهم من أثرها، وحين كانت الكتابة فعل حب قبل أن تكون فعل تغيير.
>>>
وفى النهاية، فإن فقدان الشغف ليس نهاية الطريق، بل بداية فصل جديد فى علاقة الكاتب بقلمه. فصل يدرك فيه حدود الكلمة وقوتها معًا، ويفهم أن التغيير بطبيعته بطيء، لكنه يبدأ دائمًا من كلمة صادقة.
والشغف «مهما غاب» يعود، لأن الأسئلة لا تنتهى، ولأن العالم لا يكفّ عن إرباكنا، ولأن الكاتب، مهما ابتعد، يعود دائمًا إلى الكلمة التى صنعت روحه.









