«السوشيال ميديا» تحولت لـ «أشعة» تكشف الأورام الداخلية مثل الشماتة والتعالى
أحمد ناجى قمحة
رئيس تحرير مجلتى السياسة الدولية والديمقراطية بالأهرام
فى السنوات الأخيرة، شهدت منصات التواصل الاجتماعى تحولات عميقة جعلتها تتجاوز وظيفتها الأصلية كوسائط للتعبير الحر والتفاعل الإنساني، لتتحول تدريجيًا إلى فضاءات للرقابة المجتمعية والوصاية الرمزية على الآخرين. فقد تزايدت بشكل ملحوظ المنشورات التى تتناول الحياة الشخصية للأفراد، لا من باب النقاش أو النقد الموضوعي، بل من منطلق السخرية أو التشهير أو إصدار الأحكام الأخلاقية والاجتماعية دون بيّنة أو دليل.
من زاوية علم الاجتماع الرقمي، يمكن تفسير هذا السلوك بوصفه مظهرًا من مظاهر ما يُعرف بـ «ثقافة الفرجة» (Spectacle Culture) كما طرحها المفكر جاى ديبور، حيث يتحول الإنسان ذاته إلى مادة للعرض والاستهلاك، ويتراجع الوعى النقدى لصالح التفاعل اللحظى والمحتوى المثير. كما يعكس الأمر ما يسميه بعض الباحثين بـ «التحلل القيمى فى المجال الافتراضي» نتيجة غياب الضوابط الأخلاقية والمؤسسية التى تنظم الاتصال الإنسانى فى الواقع المادي.
ويزداد خطر الظاهرة حين يُلاحظ أن كثيرًا من مرتكبى هذا النوع من التدخل فى الخصوصيات لا يتقبلون الرأى المخالف، بل يسعون إلى فرض وصايتهم الأخلاقية والفكرية على الجميع، فى محاولة لإعادة إنتاج سلطة اجتماعية جديدة داخل الفضاء الرقمي. وهكذا تتراجع حرية التعبير الحقيقية لتحل محلها حرية التهكم والتجريح، ويتآكل معنى الخصوصية فى زمن باتت فيه الحدود بين الفردى والعام شبه معدومة.
فى سياق الحياة المعاصرة المزدحمة، غالباً ما نسمع مصطلحات مثل «الرحمة» و«دعوا الخلق للخالق»، لكن هل ندرك دلالاتها العميقة؟ الرحمة ليست مجرد كلمة تُردد فى المناسبات الدينية أو الاجتماعية؛ إنها موقف حياتى يتضمن التعاطف مع الآخرين، الغفران لأخطائهم، والامتناع عن الحكم السريع عليهم. أما عبارة «دعوا الخلق للخالق»، فهى مبدأ إسلامى أصيل يؤكد أن البشر غير مسئولين عن محاسبة الآخرين أو تصنيفهم بناءً على أخطائهم، إذ يعود ذلك إلى الخالق وحده. كانت هذه القيم موجودة تاريخياً فى مجتمعاتنا، لكنها كانت مدفونة تحت طبقات من التقاليد الاجتماعية، الخوف من الرأى العام، والروتين اليومى الذى يخفى الطباع الحقيقية.
ومع ذلك، برزت المشكلة بوضوح مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، التى تعمل كأداة تشخيصية مشابهة للتصوير بالرنين المغناطيسى (MRI) أو التصوير المقطعى المحوسب (CT Scan)، حيث تكشف ما كان مخفيًا داخل النفس البشرية. فى الماضي، كانت الطباع الداخلية – سواء الإيجابية أو السلبية – محصورة فى حوارات خاصة أو أفكار شخصية غير متاحة للعامة. أما اليوم، فإن وسائل التواصل الاجتماعى تفضح هذه الطباع وتعرضها أمام ملايين الأعين، بفضل تشجيعها على التعبير الفوري، الردود السريعة، والتفاعلات غير المقيدة بقواعد اللياقة التقليدية. يؤدى ذلك إلى كشف نقص الرحمة والالتزام بمبدأ «دعوا الخلق للخالق» فى تفاعلاتنا اليومية.
فى هذا التحليل، سنربط هذه الظاهرة بنظريات فى علم التواصل الاجتماعى لفهمها بشكل علمي. سنركز على خمس نظريات رئيسية: نظرية التأثير الإفراجى عبر الإنترنت (Online Disinhibition Effect)، نظرية الاختراق الاجتماعى (SocialPenetration Theory)، نظرية غرف الصدى (Echo Chambers Theory)، مفاهيم تضخيم العواطف الرقمية، ونظرية الذات الرقمية (Digital Self Theory).
ففى عام 2004، نشر أستاذ علم النفس الأمريكى جون سولر (John Suler) بحثاً بعنوان «The Online Disinhibition Effect»، يفسر كيف يقلل التواصل عبر الإنترنت من الحواجز النفسية التى تحول دون إظهار الطباع الحقيقية. حيث حدد سولر ستة عوامل تتفاعل لإحداث هذا التأثير: الإخفاء المتفكك (DissociativeAnonymity)، اللامرئية (Invisibility)، عدم التزامن (Asynchronicity)، التفكيك الذهنى (Solipsistic Introjection)، تقليل سلطة الآخر (Dissociative Imagination)، وتجاهل السلطة (Minimization of Authority). نتيجة لذلك، يطلق الأفراد العنان لما كان مدفونًا. على سبيل المثال، قد يظهر شخص هادئ فى الحياة اليومية غضباً أو حكماً قاسياً على وسائل التواصل. هذا التأثير يجعل وسائل التواصل «آشعة» تكشف الأورام الخبيثة الداخلية، مثل نقص الرحمة، الشماتة، والتعالى الأخلاقي، دون تغيير جوهرى فى طبيعة الأشخاص أنفسهم.
وفى عام 1973، طور إيروين ألتمان (Irwin Altman) ودالماس تايلور (DalmasTaylor) نظرية النفاذ الاجتماعى (Social Penetration Theory)، التى تصف تطور العلاقات الاجتماعية كإزالة طبقات قشرة البصلة، وبالتالى يعنون من ذلك الانتقال من المعلومات السطحية إلى الأسرار العميقة. ففى ظل التواصل التقليدي، يحدث هذا التطور تدريجيًا مع الثقة والوقت، غير أن وسائل التواصل الاجتماعى وما قدمه الذكاء الاصطناعى من إمكانيات تفاعلية لها، يتم تسريع معدل هذا الاختراق من خلال المشاركة السريعة للأفكار والمحتويات الشخصية، مما يكشف الطباع المدفونة بسرعة غير متوقعة أيضًا. تشمل التغييرات؛ تسريع إزالة الحدود وتناول المؤثر لكل القضايا من رؤيته، وفرض الرؤية على الآخرين، ويتم ذلك بدعم من الآلاف من المتابعين والمعجبين.وتكون النتيجة هى صدمة اجتماعية تؤدى إلى فقدان الاتجاه والخضوع لرغبة المؤثر الذى ربما تكون منشوراته مدعومة وممولة لإحداث الأثر المطلوب، حيث يكتشف الأفراد جوانب سلبية فى الآخرين لم يكونوا مستعدين لرؤيتها، مما يعزز الصدامات والحكم السريع.
لذا، فى عصرنا الرقمى الذى أصبحنا نحمل فيه أو نقترب فيه من صفة «المواطن الرقمي»، أصبح الذكاء الاصطناعى (AI) جزءًا أساسيًا من وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يعتمد عليه فى تشكيل تجارب المستخدمين عبر منصات مثل فيسبوك، إنستغرام، إكس، وتيك توك، وسناب شات، وواتساب. يعتمد هذا التكامل على خوارزميات ذكية تقوم بتحليل البيانات لتحسين التفاعل. ومع ذلك، يثير كل ما سبق أسئلة جوهرية حول ما إذا كان الذكاء الاصطناعى يعزز التواصل البشرى أم يشوهه؟ فى هذا التحليل، سنستعرض الفوائد والمخاطر بناءً على دراسات وبيانات حديثة، مع التركيز على كيفية تغيير الذكاء الاصطناعى لديناميكيات وسائل التواصل الاجتماعي. سنغطى جوانب مثل التخصيص، الاعتدال، التسويق، والمخاطر المتعلقة بانتشار المعلومات المضللة والتأثير على الصحة النفسية، مع اقتراح حلول عملية لمواجهة هذه التحديات.
أولاً: التأثيرات الإيجابية للذكاء الاصطناعى
يُعد الذكاء الاصطناعى أداة فعالة لتحسين تجربة المستخدمين فى وسائل التواصل الاجتماعي. حيث يزيد من تفوق وانتشار المحتوى من خلال تحليل سلوكيات المستخدمين، ويتضح ذلك من الإعجابات، والمشاركات، والتعليقات. على سبيل المثال، فى فيسبوك وإنستغرام، يؤدى ذلك إلى زيادة التفاعل ويطيل من زمن البقاء على الصفحات المدعومة بالذكاء الاصطناعى والتى غالبًا ما تكون ممولة. وفقاً لدراسات، يمكن أن يصل تأثير الذكاء الاصطناعى إلى زيادة تفاعل المستخدمين بنسبة كبيرة، مما يجعل صفحات المؤثرين أكثر جاذبية.
كذلك، يساهم الذكاء الاصطناعى فى تحقيق الصفحات الممولة لأهدافها، من خلال استهدافها لتفضيلات المستخدمين، مما يفيد الشركات فى الوصول إلى الجمهور المناسب وزيادة الإيرادات. دراسة نشرت فى 2024 أكدت أن الذكاء الاصطناعى يساعد فى فهم السوق بشكل أعمق، مما يعزز الاستراتيجيات التسويقية. كما يساعد فى جدولة المنشورات فى الأوقات المثالية، مما يعزز الكفاءة.
من جهة أخري، يلعب الذكاء الاصطناعى دورًا حاسمًا فى اعتدال المحتوي، حيث يكتشف ويزيل المحتوى الضار مثل السبام والحسابات المزيفة. هذا يجعل البيئة أكثر أمانًا، خاصة مع أدوات التعرف على الصور والفيديوهات. بالإضافة إلى ذلك، يوفر الذكاء الاصطناعى تحليلات للأعمال، مثل بيانات الديموغرافيا، ومعدلات التفاعل، مما يساعد فى صياغة حملات فعالة.
فى النهاية، يعزز الذكاء الاصطناعى الكفاءة والتفاعل، حيث أشارت دراسات إلى أن أكثر من 80 % من المديرين التنفيذيين يتوقعون الاعتماد الذكاء الاصطناعى بحلول 2025 لتحسين الصورة الذهنية لمنتجاتهم وزيادة حصة شركاتهم فى السوق.
ثانيًا: التأثيرات السلبية والمخاطر
رغم الفوائد، يحمل الذكاء الاصطناعى مخاطر جسيمة على وسائل التواصل الاجتماعي. أبرزها مخاوف الخصوصية، إذ يعتمد على بيانات شخصية هائلة يتم خلالها التعرف على العديد من البيانات والصور الشخصية، مما يزيد من خطر الاختراقات.
كما تشير بعض الدراسات، أن الذكاء الاصطناعى يمكن أن يساهم فى انتشار المعلومات المضللة، حيث يمكن للبوتات الذكية تضخيم الأخبار الكاذبة، خاصة فى القضايا السياسية والشخصية التى تستهوى الرأى العام، مما يؤثر على اتجاهات الرأى العام بالسلب. كما يولد الذكاء الاصطناعى محتوى مزيفًا مثل ما يتم نشره من خلال «الوهم العميق»، الذى يشكل تهديدًا للثقة فى المنصات، وذلك من خلال استخدام الذكاء الاصطناعى لإنشاء محتوى مزيف (صور، أو فيديوهات، أو أصوات) يبدو واقعيًا للغاية، حيث يمكن استخدامها لأغراض ترفيهية، ولكنها أيضًا تثير مخاوف كبيرة بسبب إمكانية استخدامها لنشر معلومات مضللة، أو الاحتيال، أو إنشاء محتوى ضار، أو نشر أخبار كاذبة بحق السياسات العامة للدول وقادتها، والتى تحولت مؤخرًا لكى تكون أداة لتشويه الشخوص العادية.
من جهة أخري، يمكن أن يعكس الذكاء الاصطناعى انحيازات القائم بإدخال البيانات الذى يعد المدخل الرئيسى للنتائج المستخرجة، مما يؤدى إلى انحراف الاتجاه فى الرسالة، أو التوصيات، أو الإعلانات.
كذلك، يزيد الذكاء الاصطناعى من الإدمان والتأثير على الصحة النفسية، حيث يصمم خاصيات تفاعلية تشجع على الاستخدام المطول، مما يؤدى إلى القلق والاكتئاب، خاصة بين الشباب.
ثالثًا: التأثير على الصحة المعرفية والنفسية
أحدث الدراسات تربط الذكاء الاصطناعى ووسائل التواصل الاجتماعى بـ«brain rot»، أى تدهور الحالة العقلية بسبب المحتوى الرديء. حيث أظهرت دراسة من جامعة وارتون أن استخدام ملخصات الذكاء الاصطناعى يؤدى إلى نصائح عامة ويقلل من التفكير النقدي، بينما البحث التقليدى ينتج استجابات أكثر دقة. كما أظهرت دراسة أخرى أن مستخدمى شات جى بى تى يظهرون نشاطًا دماغيًا أقل أثناء الكتابة، ويفقدون الاحتفاظ بالمعلومات بسرعة.
أما بالنسبة للشباب، فأظهرت دراسة من جامعة كاليفورنيا أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعى لساعات يوميًا يرتبط بانخفاض فى الذاكرة والقراءة لدى الأطفال من 9-13 سنة. بما يحول البحث إلى استهلاك سلبى بدلًا من تحفيزه للعقل على الابتكار، مما يقلل من الاحتفاظ بالمعرفة.
رابعًا: كيفية تقليل المخاطر
فى مواجهة التأثيرات السلبية للذكاء الاصطناعى على وسائل التواصل الاجتماعي، يمكن اتباع استراتيجيات عملية متعددة المستويات لتقليل المخاطر المرتبطة بها. تهدف هذه الاستراتيجيات إلى تعزيز الاستخدام الواعى والمسئول، مع الحفاظ على الفوائد التى يقدمها الذكاء الاصطناعي. سنستعرض هذه الحلول على ثلاثة مستويات رئيسية: الفردي، والمنصات، والمجتمعي.
على المستوى الفردي، يُعد الاستخدام الحذر للذكاء الاصطناعى أمرًا أساسيًا للحفاظ على القدرات الإدراكية والعاطفية. يُنصح قبل البدء فى أى مهمة بالتفكير الذاتى قبل اللجوء إلى الأدوات الآلية، مثل كتابة مسودة أولية، ثم مراجعتها بمساعدة الذكاء الاصطناعي. كما يجب تحديد أوقات خالية من الشاشات، مثل جعل غرف النوم أو أوقات الوجبات مناطق خالية من الأجهزة الرقمية، لتقليل الإدمان والحفاظ على التوازن النفسي. بالإضافة إلى ذلك، يمكن استخدام أدوات التحكم فى الوقت المتاحة فى التطبيقات، مثل ميزة «TimeAway» فى تيك توك، لفرض حدود زمنية على الاستخدام اليومي.
أما على مستوى المنصات، فيتطلب الأمر تطوير خوارزميات أكثر شفافية وفعالية لمكافحة الانحيازات والمعلومات المضللة. يجب على الشركات المسئولة عن هذه المنصات تعزيز آليات الكشف عن المحتوى الزائف – وهو ما بدأ يحدث مؤخرًا من بعض المنصات-، وتقليل تأثير الفقاعات الإعلامية التى تعزز الاستقطاب للحد من قدرة الناشر على تحقيق أهدافه. كذلك، يُعد تعزيز خصوصية البيانات من خلال قوانين أقوى وأكثر صرامة أمرًا حاسمًا.
على المستوى المجتمعي، تُعد حملات التوعية الواسعة النطاق أداة فعالة لتسليط الضوء على مخاطر الإدمان الرقمي، والتأثيرات النفسية السلبية. لذا، يجب أن تركز هذه الحملات على تدريب المستخدمين على التمييز بين المحتوى الحقيقى والمزيف، من خلال برامج تعليمية، تشمل مهارات التحقق من المصادر والتحليل النقدي. بهذه الطريقة، يمكن بناء مجتمع رقمى أكثر وعيًا ومسئولية.
خامسًا: التعامل مع منصات التواصل الاجتماعي
إذا كان الذكاء الاصطناعى يُعد تحولًا جذريًا فى وسائل التواصل الاجتماعي، والذى كان من المفترض أن يجعلها أداة أقوى للتواصل والتفاعل. إلا أنه -كما أوضحنا-، يحمل مخاطر متعددة تتعلق بالخصوصية، الإدمان، والمعلومات المضللة، والتى يجب مواجهتها بحزم. من خلال التوازن بين استغلال الفوائد واتخاذ الاحتياطات اللازمة، يمكننا الحفاظ على نمط تواصل إيجابى يعزز الروابط الإنسانية دون الوقوع فى الفخاخ الرقمية.
هنا، لا يتمثل الحل فى إغلاق أو حجب منصات وسائل التواصل الاجتماعي، بل فى إعادة تدريب مستخدميها لتحقيق الغاية من التعامل معها، بدلًا من هذا المستنقع الذى أصبحنا نعيش فيه بسبب سوء استخدامها. فيما يلى خطة عملية مبنية على خمسة مستويات، تهدف إلى إعادة تقويم وتأهيل «المواطن الرقمي» فى العصر الرقمى من خلال نهج متعدد الأبعاد.
أولاً، على المستوى الفردي، يجب على كل مستخدم اتباع قواعد يومية لتعزيز السلوك الرشيد. تشمل هذه القواعد؛ قاعدة الـ24 ساعة، التى تنص على عدم التعليق على أى خبر إلا بعد مرور 24 ساعة لتجنب الردود العاطفية السريعة. قاعدة الوجه الإنساني، التى تتطلب تخيل الشخص المعنى واقفًا أمامك قبل كتابة أى تعليق. قاعدة الستر الرقمي، التى تشجع على إرسال رسائل خاصة للإشارة إلى الأخطاء بدلًا من التعليقات الجارحة أو المسيئة على الصفحات العامة. قاعدة الحساب الأسبوعي، التى تتضمن مراجعة التعليقات كل جمعة لحساب نسبة الرشادة والعقلانية فيما قمت بنشره. قاعدة الإيجابى اليومي، التى تتطلب نشر منشور أو قصة يومية عن نماذج ناجحة، بدلًا من كل هذه السلبيات التى تسبب ضررًا نفسيًا هائلًا على الفرد وعلى سمعة المنشور عنه، ومن ثم على المجتمع ككل فى مرحلة لاحقة.
ثانيًا، على المستوى الأسري، يُنصح بإجراء جلسات أسبوعية بعنوان «هاتفنا وعائلتنا» لمراجعة ما شاهده أفراد الأسرة، وما نشروه، وما قاموا بإعادة نشره، مع وضع اتفاق عائلى يمنع التنمر، الغيبة، والفضائح. كما يجب تخصيص ساعتين يوميًا خاليتين من الشاشات لتعزيز الحوار الحقيقى بين أفراد الأسرة.
ثالثًا، على المستوى التعليمي، يجب إدراج مادة «التربية الرقمية» فى المناهج التعليمية ابتداءًا من الصف الأول الابتدائي، مع تدريب المعلمين على اكتشاف التنمر الرقمي، وإنشاء «لجان للأخلاق رقمية» فى كل مدرسة لتعزيز القيم الإيجابية.
رابعًا، على المستوى المجتمعي، نشر الحملات الإعلامية التوعوية لتنمية الوعى بـ «الأخلاق كترند» بديلًا عن «الفضيحة كترند» أمرًا فعالًا، بالإضافة إلى إطلاق جروبات وصفحات «أخلاق رقمية» فى كل محافظة تراعى منظومتها العرفية والتقاليدية، ودعوة المشاهير والمؤثرين لتوقيع ميثاق «لا للتنمر والفضيحة « نعم للأخلاق».
خامسًا، على المستوى المؤسسى والتشريعي، يجب تغليظ عقوبات التنمر الرقمى والتشهير إلى الحبس الفعلي، وإنشاء هيئة مختصة بهدف المراقبة الدائمة للمحتوى السام الذى يستهدف هدم وتدمير المنظومة القيمية والأخلاقية للمجتمع.
أعود وأؤكد أن الحل لا يتمثل فى إغلاق هذه المنصات، فهذا مستحيل عمليًا، ولا فى السماح لها بتدمير ما تبقى من قيم إنسانية، فهذا غير مقبول أخلاقيًا. بدلاً من ذلك، يبدأ الحل بخطوات عملية وروحية تركز على إعادة التربية والبرمجة، مثل؛ أولاً، إعادة التربية الرقمية تشمل تطبيق القواعد الفردية المذكورة سابقًا، مثل قاعدة الـ24 ساعة، قاعدة الوجه الإنساني، قاعدة الستر، وقاعدة الحساب. ثانيًا، إعادة برمجة الخوارزميات تتطلب دعم المحتوى بالإعجاب والمشاركة، والإبلاغ عن المحتوى السام، واستخدام ميزة «See Less» للحسابات السلبية. ثالثًا، إعادة بناء الوسيط الاجتماعي، بما يُشجع العلماء، ورجال الدين الوسطيين، والمفكرين على الدخول إلى المنصات بما يدعم نشر الأخلاق والفضيلة. رابعًا، العودة إلى المصادر الروحية، قبل كتابة أى تعليق قاسٍ، للتساؤل عما إذا كان يعزز نشر الفضيلة بدلًا من الفضيحة.
المؤكد، أن وسائل التواصل الاجتماعى تُعد أداة تشخيصية كشفت عن أمراض اجتماعية كانت تنمو بهدوء، مثل نقص العقلانية، والحكم على النوايا، والغضب المزمن، والتعالى الأخلاقي. الآن، بعد الكشف عن هذه الأمراض، لدينا خياران: إما إغلاق «الآشعة» والعودة إلى العتمة، مما يؤدى إلى تفاقم المشكلات، أو البدء فى العلاج من خلال إعادة تربية أنفسنا، برمجة خوارزمياتنا، وبناء مجتمعات رقمية سوية. يُفضل الخيار الثانى كنهج بناء، ويُشجع على مشاركة هذه الأفكار لإنقاذ القلوب من هذا التصلب الذى أصابها.
المؤكد أيضًا، أن الذكاء الاصطناعى يُعد تحولًا جذريًا فى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يجعلها أداة أقوى للتواصل والتفاعل. ومع ذلك، فإنه يحمل مخاطر متعددة تتعلق بالخصوصية، الإدمان، والمعلومات المضللة، والتى يجب مواجهتها بحزم. من خلال التوازن بين استغلال الفوائد واتخاذ الاحتياطات اللازمة، يمكننا الحفاظ على نمط تواصل إيجابى يعزز الروابط الإنسانية دون الوقوع فى الفخاخ الرقمية.
سادساً: السلطة الرقمية والضمير الغائب
لم يعد الحكم فى الفضاء الرقمى مجرد مسألة تتعلق بالخوارزميات أو القوانين، بل أصبح تجليًا لنمط جديد من السلطة غير المرئية؛ سلطة «البيانات» التى تحكم دون أن تُسأل، وتوجّه دون أن تُري. فبينما كان ميشيل فوكو يتحدث عن السلطة الانضباطية فى مؤسسات السجن والمدرسة والمستشفي، نشهد اليوم نوعًا جديدًا من الانضباط اللامركزى تمارسه المنصات عبر الخوارزميات المعيارية. هذه الخوارزميات لا تُعاقب، بل تُكافئ، لا تُراقب الأجساد بل الأنماط السلوكية، وتعيد تشكيل الضمير الجمعى ليحكم الأفراد على أنفسهم بأنفسهم، من خلال ما يمكن تسميته بـ»الضمير الخوارزمي».
إن الخطر الأكبر لا يكمن فى فقدان الخصوصية وحده، بل فى أن يتحول الإنسان ذاته إلى أداة لرقابة ذاته، متماهياً مع معايير المنصة ومقاييس الرواج، حتى يغيب الضمير الإنسانى الحقيقى لصالح الضمير الافتراضى الذى يقيس القيم بعدد الإعجابات. وهكذا، يتراجع السؤال الأخلاقى «هل هذا صواب؟» ليُستبدل بسؤالٍ تقنيٍّ بارد: «هل هذا محتوى يلقى تفاعلاً؟».
فى نهاية هذا التحليل الشامل لظاهرة الأخلاق مقابل التشهير على منصات التواصل الاجتماعي، نتيقن أننا نواجه تحولًا جذريًا فى طبيعة التواصل البشري، حيث أصبحت هذه المنصات ليست مجرد أدوات للتبادل الاجتماعي، بل ساحات للصراع القيمى والنفسي، تكشف عن أعماق النفس البشرية التى كانت مخفية فى العصور السابقة. من خلال استكشافنا لـ«ثقافة الفرجة» و«التحلل القيمي»، مرورًا بنظريات مثل التأثير عبر الإنترنت لجون سولر، ونظرية النفاذ الاجتماعى لألتمان وتايلور، وصولاً إلى غرف الصدى وتضخيم العواطف الرقمية، أصبح من الواضح أن وسائل التواصل تعمل كأداة تشخيصية قوية، تكشف عن نقص الرحمة، والشماتة، والتعالى الأخلاقى الذى يسود فى تفاعلاتنا اليومية. هذه المنصات، بدلًا من تعزيز الحوار البناء، غالبًا ما تتحول حرية التعبير إلى حرية التهكم والتجريح، مما يهدد خصوصية الأفراد ويؤدى إلى تآكل الروابط الاجتماعية.
ومع اندماج الذكاء الاصطناعى فى هذه الديناميكيات، يتفاقم التحدي. فقد أظهر التحليل أن الذكاء الاصطناعي، رغم فوائده فى تخصيص المحتوي، تحسين التفاعل، واعتدال المحتوى الضار – كما أكدت دراسات 2024 التى تشير إلى زيادة التفاعل بنسبة كبيرة – إلا أنه يحمل مخاطر جسيمة. من انتشار المعلومات المضللة عبر البوتاتوالديبفيك، إلى تعزيز الإدمان والتأثير السلبى على الصحة النفسية والمعرفية، كما فى ظاهرة «brain rot» التى ترتبط بانخفاض الذاكرة والتفكير النقدى لدى الشباب. كما أن الانحيازات فى الخوارزميات وانتهاك الخصوصية يعززان الاستقطاب الاجتماعي، مما يجعل السؤال المركزى للمقال – «من يحكم؟» – أكثر إلحاحاً. هل تحكم الخوارزميات غير الشفافة، أم المستخدمون الذين يفقدون سيطرتهم على عواطفهم، أم المؤسسات التى تتجاهل الضوابط الأخلاقية؟ الإجابة تكمن فى غياب حاكم حقيقي، حيث يسيطر الفراغ القيمى على الفضاء الرقمي.
ومع ذلك، ليس الوضع ميئوسًا منه. كما اقترحنا فى التحليل، يمكن مواجهة هذه التحديات من خلال استراتيجيات متعددة المستويات؛ على المستوى الفردي، باتباع قواعد مثل «الـ24 ساعة» و«الستر الرقمي» لتعزيز الرشد والرحمة؛ على المستوى الأسرى والتعليمي، من خلال جلسات مراجعة وإدراج التربية الرقمية فى المناهج؛ وعلى المستوى المجتمعى والمؤسسي، عبر حملات توعية، ميثاقات أخلاقية للمؤثرين، وتغليظ العقوبات على التنمر الرقمي. كذلك، يجب إعادة برمجة الخوارزميات لدعم المحتوى الإيجابي، وتعزيز الوعى بالمبادئ الروحية مثل «دعوا الخلق للخالق»، التى تذكرنا بأن الحكم على الآخرين ليس من شأننا.
فى الختام، إن وسائل التواصل الاجتماعي، مدعومة بالذكاء الاصطناعي، هى مرآة لمجتمعاتنا، تكشف الأمراض الاجتماعية والنفسية التى كانت تنمو فى الظلام. لكنها أيضًا فرصة للشفاء، إذا اخترنا العلاج بدلًا من الإنكار. يجب أن نعيد بناء «المواطن الرقمي» ككائن مسئول، يجمع بين التكنولوجيا والقيم الإنسانية، ليصبح الفضاء الرقمى مكانًا للتلاقى لا للتصادم. إن مستقبلنا الرقمى يعتمد على قدرتنا على فرض الأخلاق كحاكم أعلي، بدلًا من السماح للتشهير والعواطف اللحظية بالسيطرة. دعونا نعمل جميعًا نحو عالم رقمى أكثر رحمة وعدلًا، حيث يسود التواصل البناء ويتراجع التشهير، فالخيار بين يدينا: إما أن نستمر فى المستنقع، أو نبنى جسورًا رقمية تربط القلوب لا تدمرها.









