مرض جديد بدأ ينتشر فى كافة الأوساط دون ان ينتبه إلى خطورته احد ، هذا المرض هو عبارة عن فيروس سلوكى او نفسى يجعل صاحبه عاجزا عن رؤية الأشياء على حقيقتها ، فيسبح فى خيالات الوهم فينتفخ وهما ويتمدد فى الفراغ ، هذا المريض يعبد ذاته فيتصور نفسه وحيد عصره وفريد دهره ، ويريد ان يعير عينيه لكل من حوله ليروه كما يريد هو أن يراه الناس ، وهو فى سبيل مناجاته الدائمة لذاته المريضة محاولا إشباعها وهما وفراغا وسطحية وضحالة ، يكذب عليها ويخونها ويقدم لها كل ما هو مزيف ، هذا المريض يعبد اللقطة ويدمن ركوب التريند ، فيعبد الشيطان وهو لايدرى انه شيطان.
فلم يعد الانشغال بحقيقة الأشياء جزءًا من أولويات هؤلاء المرضى ، فقد صارت «اللقطة» هى المعبد الجديد الذى يتقرب إليه البعض بكل ما يملكون من جهد ووقت وكرامة. وفى زمن تتصدر فيه الهشاشةُ المشهد، بات الطريق الأسهل نحو ــ ركوب التريند ــ هو أن يتخلى المرء عن عقله، وأن يتجاوز ما يقره المنطق، وأن يستبدل منظومة القيم الإنسانية بجرعة من الصخب والضجيج المفتعلين. فالشخص الذى يلهث خلف التريند لايبحث عن أثر حقيقي، بل عن ضوءٍ عابر يلمع فى شاشة صغيرة، ثم يختفى كما ظهر.
واللافت أن هذا السلوك لم يعد مقتصرًا على أفراد يبحثون عن الشهرة، كمن تخرج على الناس بألفاظ هابطة أو محتوى مبتذل لجذب المشاهدات، بل امتد «مع الأسف» إلى بعض المسئولين الذين صاروا يرون فى القرار الغريب أو التصريح المبالغ فيه وسيلة سهلة للصعود، حتى وإن مسَّ ذلك الصالح العام. وهنا تصبح «اللقطة» بديلاً عن الحكمة، والظهور بديلاً عن العمل، وانعكاس الصورة أهم من انعكاس النتائج على المواطن والدولة.
وليس الهدف هنا الإشارة إلى شخص بعينه، بل الإشارة إلى ظاهرة عامة تحتاج وقفة جادة. فمنذ عقود طويلة نعانى من نمط إدارى محلى الصنع، تشكل عبر الزمن وترسخ فى الضمير الجمعى تحت شعار «سِلو بلدنا». وعلى الرغم من أن علوم الإدارة الحديثة قدمت نماذج رصينة يمكن تطبيقها فى مؤسسات الدولة ومنظمات الأعمال ـ مثل الإدارة بالأهداف، والإدارة بالنتائج، والإدارة بالمشاركة ـ إلا أن الواقع كثيرًا ما يفرض نمطًا آخر يبتعد عن هذه الأسس، ويعتمد على مجموعة من الممارسات التى لاعلاقة لها بالإدارة إلا فى الاسم.
فعندنا أنماط مثل «الإدارة بالواسطة والعشم»، و»الإدارة بالاستلطاف وخفة الظل»، و»الإدارة بالأهواء والمصالح الدفينة»، و»الإدارة بالتساهيل والتواكل»، و»الإدارة بالاختباء والمراوغة»، و»الإدارة بالتأجيل والخروج الآمن». جميع هذه الأنماط تتشارك فى شيءٍ واحد: إقصاء العلم والمنهجية واستبدالهما بطرق بدائية تفتقد إلى الاحتراف والانضباط.
ولعل أبرز مظاهر تلك الأنماط هو ما يمكن تسميته بـ»إدارة اللقطة». فهناك نوع من المسئولين لا يعنيه مدى تقدم مؤسسته ولا ما إذا كانت خدماتها تُرضى الناس أم لا؛ إذ ينحصر اهتمامه فى صورة هنا، ولقطة هناك، واجتماع صورى يُرفع على منصات التواصل ليبدو وكأنه لا ينام من أجل العمل. مثل هذا المسئول يمتلك «ألبوم إنجازات» زائفًا، يمتلئ بصور باهتة وابتسامات مصطنعة، لكنه يخلو من أى نتائج حقيقية تُقاس أو تُبنى عليها رؤى مستقبلية.
ووجود هذا النموذج ليس مجرد خطأ إداري، بل هو عبء ثقيل على جسد دولة تسعى إلى بناء مستقبل مختلف. إن الجمهورية الجديدة التى يجرى العمل عليها اليوم لا تحتمل مسئولًا يجعل من نفسه محورًا لكل شيء، ويغفل أن مهمته الحقيقية هى خدمة المواطنين لا خدمة صورته الذاتية. كما أن الدولة التى تستثمر فى البنية التحتية والتعليم والصحة لا يصح أن تكون رهينة لمدير يرفع الهاتف أكثر مما يدرس الملفات، ويتابع تعليقاته فى «السوشيال ميديا» أكثر مما يتابع تقارير الأداء.
وهنا تحديدًا يتجلى الفارق بين من يدير لأجل الظهور، ومن يدير لأجل النتائج. فحين ننظر إلى أعلى قمة هرم الإدارة فى الدولة نجد نموذجًا مختلفًا تمامًا: نموذجًا يمزج بين الإدارة بالأهداف، والإدارة بالمصارحة والمتابعة، والإدارة التى تقدّم المصلحة العامة على أى اعتبار. الرئيس يضع رؤية، ويحاسب، ويتابع، ويواجه التحديات بشفافية، ويتخذ أصعب القرارات دون أن يبحث عن «لقطة» أو مجد شخصي. تواضعه وثقته وإيمانه بقدرة الدولة على التغيير هى التى صنعت الجسر بينه وبين الناس، لا الكاميرات ولا الاستعراضات.
من هنا تأتى الدعوة الصادقة: على كل مسئول فى مصر ـ من أعلى الدرجات الوظيفية إلى أدناها ـ أن يتخلى عن سياسة اللقطة، وأن يحرر نفسه من شهوة الظهور، وأن يفكر للحظة واحدة فى ما يتركه من أثر حقيقي، لا فى عدد المشاهدات وعدد الإعجابات. فالدولة تُبنى بالعمل، لا بالتصوير. وبالمسئولية، لا بالمنشورات. وبالإنجازات، لا بالألبومات.
مصر تستحق منا ان نحترم العلم، ونقدس الانضباط، وندرك أن قيمة المسئول تكمن فى ما يقدمه لمؤسسته وللناس، لا فى ما يقدمه لمتابعيه. واللحظة التى يتحرر فيها المسئول من عبادة اللقطة هى اللحظة التى يبدأ فيها بناء حقيقي، وتنطلق فيها طاقة التغيير التى تنتظرها البلاد.









