عندما نظر الإسكافى إلى إحدى لوحات الفنان الإيطالى «أبوليس» ووجد خللا فى رسم نعل داخل احدى اللوحات، فقام بجرأة معلقا ومنبها الرسام الكبير وبتواضع شديد تقبل الرسام الملاحظة وقام بتعديل مقاسات النعل داخل اللوحة، لكن الإسكافى تمادى واستمر فى انتقاد عناصر أخرى فى اللوحة خارج نطاق تخصصه كإسكافى، هنا انتفض الرسام أبوليس قائلاً: «أيها الإسكافى، لا تتجاوز حدود النعل».
> > >
تذكرت هذه القصة وأنا أتابع هؤلاء الذين يصفقون لبناة حوائط الأوهام فى إقليمنا البائس ويرفعون مداميك العبث وهم يصفقون لأنفسهم فى بلاهة نادرة.
تذكرت قصة الإسكافى والرسام فما يجرى فى المنطقة أمام أعيننا الآن هو عملية «فك وتركيب وملء فراغات»، سيعقبها بالتأكيد عمليات التشطيبات النهائية ورسم الجداريات التى تصنع الصور الذهنية المطلوبة.
> > >
ثم تبدأ عمليات التسويق والترويج والتنظير والتأطير لشكل الإقليم وفقا لنظرية «الجداريات الخادعة» لقد كانت أولى عمليات الفك قد حدثت يوم غزت العراق الكويت وما تلاها من نتائج قد بدت فى حينها للبعض منطقية وغير مخططة، حيث تم احتلال بغداد وتم حل الجيش العراقى بقرار من الحاكم الأمريكى للعراق حينها بول بريمر وتم إطلاق سراح شياطين الطائفية البغيضة والمحاصصة الكريهة حتى تم «لبننة» المشهد العراقى مخدرة هامة نحو «بلقنة» الإقليم برمته.
> > >
ثم جاءت حرب اليمن لتفتح جرحا إقليميا ما زال ينزف ألما حتى الآن، واخيراً تم وضع سوريا فى غرفة التشريح الجيوسياسى تحت رعاية أمريكية- روسية مشتركة وهرب بشار وجئ بأحد قيادات تنظيم القاعدة ليجلس مكانه على كرسى الحكم وتدخل سوريا فى فصل جديد تماما، يرى البعض ان سوريا دخلت إلى المستقبل من بوابات والتوجهات الأمريكية والموافقة الروسية.
> > >
ويرى البعض الآخر أن سوريا دخلت إلى النفق المظلم من نفس تلك الأبواب والنتائج ستكون كارثية على فكرة الدولة ووجودها وبقائها على نفس خطوط الجغرافيا القائمة، هنا تقف مصر متحفظة دون تدخل، لكنها أعلنت موقفها العام الداعم لبقاء الدولة ووحدة أراضيها وسياداتها مع الحفاظ على التوازن بين جميع المكونات السورية.
> > >
مصر لم تغلق الباب ولم تفتحه لكنها لم تفتح خزينة التفاؤل وحذرت من مغبة تقسيم سوريا او وقوعها- لا قدر الله فى حرب اهلية- دول تدعم سوريا لإبعاد إيران عنها ودول تدعم سوريا لإضعاف الأكراد والسيطرة على الشمال الكردى وأمريكا تدعم سوريا لضرب التحالف السوري- الروسى السابق ومحاصرة القواعد الروسية فى حميميم وطرطوس والاتحاد الأوربى يدعم سوريا لتجفيف منابع الهجرة غير الشرعية واللجوء السياسي.
> > >
أما إسرائيل فتدعم النظام السورى الجديد لقطع الطريق على إيران وأذرعها الشيعية فى المنطقة من خلال وجود نظام سنى حليف وكاره لايران بالإضافة إلى إعادة انتشار القوات الإسرائيلية فى الجولان والسويداء واللعب بورقة الدروز ومن ثم تحويل سوريا إلى دولة صديقة، وعلى الصعيد الفلسطينى فقد كانت الخطة أكثر فجاجة ووقاحة، فصل الضفة عن غزة عن طريق خلق تنظيمات راديكالية خرجت من رحم جماعات الإسلام السياسى.
> > >
تم إضعاف السلطة وشيطنة حركة فتح، وكان الطريق مفروشا بالورد أمام خطة التهجير للسكان والتصفية للقضية، كانت حركة حماس هى الطعم الذى ارادت إسرائيل اصطياد أهدافها من خلالها وهذه قصة لعبت فيها الدعاية والبروباجندا الصهيونية الدور الأكبر، وقفت دول عربية ومصر والأردن موقف رافض للتهجير، ومع ازدياد الضغط الأمريكى والأوروبى أعادت بعض الدول حساباتها وبقيت مصر والأردن فى مواجهة المخطط الإسرائيلى ومع جنون اليمين الإسرائيلى المدعوم امريكياً.
> > >
أصبحت مصر بمفردها فى المواجهة، كانت خطوط مصر الحمراء مرسومة سياسيا وعسكريا ببراعة، خاضت مصر معارك دبلوماسية اعتمدت على رصيد الخبرة التاريخى والفهم الدقيق لواقع المنطقة وتعقيداتها، فى النهاية نجحت مصر- منفردة- فى إيقاف خطط التهجير والتصفية، وكانت- وللحق- قطر داعمة للموقف المصرى فى فلسطين دون شروط، كما ان دخول تركيا على الخط ليس لكونها الدولة الإقليمية السنية الأقرب ولكن لما للرئيس التركى من ولاية اخلاقية على بعض فصائل الإسلام السياسى ومنها حماس وبعض فلول الإخوان.
> > >
مصر هنا لم تضع البيض فى سلة واحدة، ولم تدخر جهدا يمكن ان تبذله ولم تحجب عن الآخرين القيام باى دور لمصلحة الحق الفلسطيني، المملكة السعودية وفرنسا تحالفا لأجل الدفع فى اتجاه حل الدولتين، هنا ضربت مصر المثل واتجهت صوب الدعم المطلق للجهود السعودية- الفرنسية وشاركت فى جميع الفعاليات المتعلقة بهذا المسار، على الصعيد الليبى هناك حكومتان ومجموعة ميليشيات متناحرة وبرلمان واحد وجيش وطنى لا يسيطر إلا على الشرق والجنوب وبقيت العاصمة فى ايدى الميليشيات.
> > >
مصر وقفت مع كل ما يؤدى إلى الحفاظ على وحدة الدولة الليبية وإعادة بناء المؤسسات، لكن التباين مع الصديق التركى واضح ولا لبس فيه، وفى السودان الوضع اكثر خطورة وهناك تباين بين الموقف المصرى الداعم للجيش الوطنى ومؤسسات الدولة الشرعية ومواقف البعض من الداعمين لميليشيا الدعم السريع.
> > >
هنا تقف دولة أخرى فى نفس مربع الموقف المصرى الداعم للجيش السودانى والمتقاطع مع الدول الداعمة للميليشيا، اما فى اليمن فمصر تقف ضد التدخلات العسكرية واللجوء إلى القوة فى حل النزاعات بوجه عام.
> > >
كل هذه المنمنمات السياسية أراها جميعها بمثابة متغيرات، بيد أن الثابت الوحيد فى التاريخ هو الجغرافيا، لذلك لا ارى امامى من ثوابت إلى «مصر» وقطعا واحتراما للتاريخ فإن تركيا العثمانية وايران الفارسية ثوابت جغرافية وتاريخية لا يمكن إغفالها ولا يمكن محوها من المعادلة، اما دول الخليج الإمارات والسعودية وقطر فلديها إمكانات مالية ضخمة مكنتها من خلق أدوات سياسية مهمة ومؤثرة فى الاقليم بشكل مباشر وخارج الاقليم بشكل غير مباشر لذلك فوجودها فى المعادلة ضرورة حتمية تمشيا مع الواقعية السياسية فى اللحظة الراهنة،
> > >
اما إسرائيل فى بؤرة التوتر الإقليمى الذى يضع الاقليم على فوهة بركان، لذلك فمن يراهن على دور إسرائيل فى تشكيل شرق أوسط جديد فهو كمن يضع عقله فى ثلاجة حفظ الموتي، المؤمنون بدور إسرائيل المهيمن على المنطقة كمن أراد ان يتوب إلى الله فندب إلى الشيطان ليستشيره فى الأمر.









