تعيد مبادرة الصالون الثقافى للمصريين بالخارج رسم خريطة العلاقة بين الوطن وأبنائه المنتشرين فى أصقاع العالم، ليس فقط عبر الحوار، بل من خلال إعادة إحياء خيط الوجدان الذى يربط المصرى بمصر، مهما ابتعدت المسافات وتبدلت الظروف. إنها لحظة تأمل فى معنى الانتماء، وفى كيفية ترجمة الحنين إلى فعل، والكلمة إلى جسور تمتد من القاهرة إلى كل عاصمة تحتضن مصرياً يحمل فى قلبه ضوء النيل ودفء التراب.
الصالون الثقافى فى فكرته الجوهرية ليس مجرد لقاء فكرى أو ندوة عن بعد، بل هو مساحة تلتقى فيها التجارب الشخصية مع الذاكرة الجمعية، وتذوب فيها الحدود بين الداخل والخارج. هناك، يتحدث المصريون بلغتهم الأصيلة، عن أحلامهم وحنينهم وتحدياتهم، عن رؤيتهم لوطن يتغير بسرعة ويبحث عن أبنائه ليكونوا شركاء فى مستقبله.
ولعل ما يميز هذا المشروع أنه خرج من الإطار البروتوكولى إلى فضاء أكثر دفئاً وإنسانية، حيث تتلاقى الأفكار بحرية ومسؤولية، وتُستعاد قيم الحوار التى طالما كانت جزءاً من روح مصر الثقافية عبر العصور. فالمصرى الذى يعيش فى باريس أو نيويورك أو الخليج لا يفقد ارتباطه بالوطن، بل يحتاج إلى نافذة يرى من خلالها تحولات بلاده ويسهم بفكره وخبرته فيما يجرى على أرضها.
أن نعيد وصل ما انقطع بين الداخل والخارج هو تحدٍّ وطنى وثقافى فى آنٍ واحد. وهو ما تنبه إليه وزير الخارجية بدر عبد العاطي، الذى جعل من التواصل مع المصريين بالخارج جزءاً من رؤية متكاملة تُعيد تعريف الدبلوماسية على أنها ليست فقط عملاً سياسياً، بل أيضاً جسر إنسانى يربط الدولة بأبنائها. هذه المقاربة الجديدة تحوّل «المغترب» من متلقٍ للرسائل إلى طرف فاعل فى صياغة الصورة الوطنية، وصوتٍ يسهم فى تقديم مصر كما يراها العالم، وكما يريدها أبناؤها أن تكون.
فى زمن تتقاطع فيه الهويات وتتسارع فيه التحولات، يصبح الحوار الثقافى بين المصريين فى الخارج ووطنهم الأم أداةً لحماية الهوية، ومجالاً لتجديد الانتماء على أسس معرفية وفكرية، لامجرد عاطفية. فالقوة الحقيقية لمصر كانت دائماً فى قدرتها على التواصل: من مدارسها الفكرية فى القرون الماضية إلى مثقفيها الذين حملوا صوتها إلى العالم، واليوم من خلال أبنائها الذين يحملون العلم والخبرة فى مجالات شتي.
إن انطلاق حلقات الصالون الثقافى يفتح صفحة جديدة فى علاقة الدولة بجالياتها، ويعيد الاعتبار للثقافة كوسيلة للتقارب لا كترفٍ فكري. هو إعلان غير مباشر بأن مصر تمد يدها لكل أبنائها، تستمع إليهم كما يتحدثون، وتفكر معهم كما يحلمون. ومن هنا، فإن هذا الجهد المستمر فى مدّ خيوط التواصل، الذى يُحسب لوزير الخارجية وفريقه، هو خطوة فى الاتجاه الصحيح نحو بناء شبكة وجدانية وفكرية تعزز صورة مصر فى العالم وتُثبّت جذور أبنائها فى تربتها الأولى مهما ابتعدوا عنها.
يبقى الأمل أن تستمر هذه الحوارات، وأن تتسع دائرتها لتشمل الفن والعلم والابتكار، حتى تتحول إلى منصة دائمة للتفاعل بين مصر وأبنائها، فى رحلة لا تنتهى .









