فى الأوقات الضبابية يختلط الحابل بالنابل ويختلط الحق بالباطل وتزداد المتشابهات ويفضل الناس سكنى الأحياء الرمادية، ربما يفقد الناس البوصلة التى يهتدون بها إلى طريق الحق الذى يقودهم إلى تحقيق غاياتهم، بعد تفكير وتمحيص وضعت يدى على الحل الناجع وهو التجرد، والتجرد ليس له من طريق إلا عصيان الهوى فعندما أرسل أحد الولاة لأحد الفقهاء يسأله موعظة موجزة فرد عليه بقوله «أما بعد.. اعص هواك والسلام» وقال الحسن البصرى «لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تجادلوهم ولاتسمعوا منهم» وشدد القرآن العظيم فى أكثر من موضع على نفس المعنى بقوله تعالي: «وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَي» وقوله سبحانه «وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ» و«أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ» وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ» لكل ما سبق وغيره وبعد سنى العمر وما علق فى وجداننا من قيم وثوابت أجد نفسى مدينا لهذا القول الجامع الشامل«اعص هواك».
>>>
دوما ما أراجع نفسى وما اتخذه من قرارات على مدار الساعة وكذلك ما أتناوله بشكل دائم من قضايا وآراء، وأسأل نفسى بوضوح، هل أنا مجرد من الهوى فيما أقول وأكتب؟ أم يعترينى هوى من حب أو كراهية أو غرض ومصلحة؟ الحقيقة أن نفسى لوامة بشكل كبير فلا تتركنى أسبح فى بحيرات الهوى دون تنبيه مزعج ومثير ومقلق، فأستدير مباشرة دون تفكير طالما كان الهوى جزءاً من الحكاية، فكرت مليا فى كل ما أكتبه وكل ما أقوله ولا أجد أثرا والحمد لله لمخدر الهوى يسرى فى أوصالى الفكرية، أحب الناس ولا أبغض أحدًا وأعشق تراب هذا الوطن ولا أزايد ولا أناور ولم أقف يوما فى محطة رمادية ولم أمسك عصا من منتصفها أبدًا، لم تتسلل مشاعر الحقد والكراهية والانتقام والهدم إلى قلبى المشغول بالحب والتسامح والتفاؤل والبناء، أكره وأبغض الظلم والكذب والتطرف والخيانة والكراهية وأقف على ناصية الحلم أقاوم أصحابها بقوة وحكمة ما استطعت الى ذلك سبيلا.
>>>
لقد علمت من دروس التاريخ أن كثيرين تخدمهم الظروف والمواءمات وربما الصدف فى الوصول الى مكان مرموق، القليلون منهم هم القادرون على اقتناص الفرصة واستثمار المكان لإضافة بصمة حقيقية يشهد لها الجميع وتبيض وجوه الجميع، وكثيرون يقفون حراسا على صرح تفاهتهم ويدافعون باستماتة على رماديتهم وعجزهم، إذا تحدثت مع أحدهم ناصحا ينظر إليك من طرف خفى ولسان حاله يقول «احتفظ بنصائحك لنفسك» فهو يرى أن طريقه الرمادى وطريقته السطحية هما سر وجوده فى هذا المكان، ورويدا رويدا يتسلل إليه الغرور وتتسلط عليه الثقة المزيفة، فيرى القراءة والكتابة والتفكير والتحليل سفسطة فى غير موضعها وفى غير أوانها، هؤلاء لن يحققوا «مكانة» مهما علت أماكنهم فهم والعدم سواء، لا يؤثرون ولا يتأثرون لايفهمون ولا يُفهمون لا يخافون خالقا ولا يحترمون مخلوقا، حماقتهم أعجزت كلماتي، لذلك آمنت منذ طفولتى بأن المكان أبدًا لن يصنع مكانة ولا يخلق احتراما ولا يولد حبا، أحد هؤلاء يحيطون أنفسهم طوال الوقت بهالة من الأكاذيب والأباطيل والأضاليل حتى يصدقوا أنفسهم، لكن دروس التاريخ علمتنا أن هؤلاء ميتون ولا ذكرى لهم رغم وجودهم على قيد الحياة فهم ميتون ولم تستخرج شهادة وفاتهم بعد، وهناك أناس صدقوا ما عاهدوا الله عليه وعملوا واجتهدوا وأخلصوا لوطنهم ومبادئهم فتربعوا فى قلوب الجميع حتى بعد رحيلهم، خلاصة مقالى أن الإنسان منا عليه أن يبحث عن ذاته وسط ركام نفسه ويعلم أن المكان زائل والمكانة باقية فلنحرص على بناء مكانتنا ولاتضيع أوقاتنا فى الوصول إلى أماكن لن تبقى ولن تدوم.









